التيارات البحرية: أنهار متدفقة في قلب المحيط!

         إن الأنهار البحرية - وهي ذاتها المعروفة بالتيارات البحرية - ما هي إلا ظاهره طبيعية استرعت انتباه البحارة في عرض المحيط، كما رصدها العلماء منذ أمد بعيد.. ولقد عرفوها على أنها "تيارات مائية تنشأ في عرض المحيطات - وبعض البحار - على هيئة نهر يتدفق ويجري لمسافة قد تصل لبضعة كيلو مترات، وبعمق يصل لنحو ٢٠٠ متر، وبسرعة ١٥٠ متر في الدقيقة الواحدة".

        ولقد كان العالم (جون ماري) من بين الذين رصدوا هذه الظاهرة وأولوها قسطاً معقولاً من الدراسة.. وقد أنه أطلق على تيار الخليج الدافئ غرب مياه بحر سرجاسو مصطلح "نهر الخليج".. كما أوضح بأنه "نهر بحرى تسير مياهه من الجنوب ناحية الشمال، ويمتد بالقرب من الساحل الشرقي لأمريكا الشمالية.. وقديماً، فُسرت نشأة هذه التيارات المائية - أو الأنهار البحرية - أنها بسبب دوران الأرض حول نفسها كل ٢٤ ساعة، بالإضافة إلى حركتها في مسارها حول الشمس وعلاقتها بالكواكب الأخرى.. أما حديثاً فالدراسات تؤكد أنها تنشأ بسبب اختلاف درجة كثافة المياه من مسطح مائي إلى آخر، وأن هذا هو العامل الأساسي الذي يؤثر في تكوين تيارات مائية تنتقل من منطقة في المحيط إلى أخرى.. وكما هو معلوم فكثافة المياه تتوقف بدورها على الاختلاف في درجة الحرارة وعلى نسبة الملوحة أيضاً.. فضلاً عن ذلك فقد أكدت الدراسات الحديثة بأن للرياح تأثير واضح على تكون الأنهار البحرية، لكنه  لا يتعدى كونه يرسم لها اتجاهها وحسب.

إن الأصل العلمي في مسألة نشأة التيارات البحرية يستند على أن كل قطرة مياه في المحيط إنما تمر بدورتين أساسيتين، أولهما؛ "الدورة الرأسية" من سطح المحيط إلى قاعه والعكس.. وثانيهما؛ "الدورة الأفقية" من المسطحات المائية الاستوائية إلى المسطحات المائية القطبية، وبالعكس كذلك.. وأن طول هاتين الدورتين بالنسبة لقطرة معينة من المياه قد تتخذ فترة زمنية تتراوح من ٣٠٠ - ٦٠٠ سنة! ولعل هذا ما عزى بالعلماء القول بأن "التيارات البحرية السطحية ما هي إلا جزء من الدورة العظمى لحركة المياه الرأسية والأفقية بالمحيطات".

هذا، وقد قسم العلماء التيّارات البحرية إلى نوعين أساسيين، أولهما؛ "التيارات السطحية"، تلك التي تنشأ بتحرك الطبقة العليا من مياه المحيطات الموجودة حتى عمق 100 متر بفعل الرياح، وبسبب الاختلاف الحراري فوق الأرض، يدور الهواء دوراناً شديداً مما يتسبب في حركةً المياه السطحية في المحيط في صورة تيارات عظيمة كما سيتضح.. وثانيهما؛ "التيارات العميقة"، تلك التي تختص بحركة المياه أسفل سطح المحيط، وتنشأ أساساً بسبب اختلاف كثافة مياه البحر من موضع لآخر بسبب التباين في درجات ملوحة المياه ودرجات حرارتها في أعماق المحيط.

ومن العجيب في طبيعة هذه الأنهار البحرية ما رُصد حين توقفت الباخرة (تمبا) التابعة لسلاح البحرية الأمريكية ذات مرة عند حافة أحد الأنهار البحرية، وذلك لقياس درجة حرارة الماء هناك، فوجدوا أنها كانت عند مقدمة الباخرة 14° مئوية، فيما كانت عند مؤخرتها 1.5° مئوية فقط!

وإن من أعظم الأنهار البحرية هذه أهمية هو التيار المائي بخليج المكسيك، ذلك الذي يتدفق من الخليج بين كوبا وفلوريدا، ثم يتحرك بسرعة 5 كيلو مترات في الساعة، ويصل عرضه 145 كيلو متراً، فيما يتعدى عمقه في بعض الأماكن أكثر من ۸۰۰ متر.. ومن المدهش أن نحو مليار طن من الماء تمر على طول ساحل فلوريدا في كل دقيقة!

الجدير بالذكر أن تيار خليج المكسيك يتفرع إلى عدة فروع، إذ يتجه أحدها شواطئ بريطانيا والنرويج دافعاً أكوام الثلج القطبية الهائلة أمامه.. ويتجه آخر نحو صوب سواحل أيسلندا.. ومنه ينجه فرع ثالث ناحية الجنوب بطول شواطئ قارة أفريقيا.. كما يتسبب فيما يُعرف بـ (التيارات الاستوائية)، كنتيجة لحركة الأرض تجاه الشرق وانبعاجها عند خط الاستواء.. ومن الملحوظ أن تيار الخليج إنما ينساب في بدء الحال من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى.. ثم وبعدما يعبر المحيط الأطلنطي تنحرف مياهه جنوباً على بطول سواحل أفريقيا لينضم بذلك إلى "التيار الاستوائي".

وفي المحيط الهادئ هناك - أيضاً - أنهار بحرية غير أن وجود عدد هائل من الجزر به يتسبب في تفرع هذه التيارات فلا تظهر بوضوح كتيار خليج المكسيك الشهير.. ولعل أهم تياراته البحرية ذلك "التيار الاستوائي" العابر لمسافة طويلة جداً قدرها 14500 كيلو متر بهذا المحيط الشاسع، ثم ينحرف هذا التيار شمالاً بطول سواحل الفليبين، وعدد من الجزر الأخرى، ثم يعبر المحيط - مرة أخرى - مشكلاً "التيار الياباني".. أما المحيط الهندي فهو أقلهم من حيث التيارات البحرية ذلك بأنه منحصر بين قارات أفريقيا وآسيا وأستراليا، بل وتؤثر عليها حركة الرياح بشكل كبير

ومن المثير في أمر هذه التيارات البحرية أنها تقوم بتنظيف البحر وتنقية مياهه بشكل مستمر فلا تصير مياه راكدة تنخفض فيها نسبة الأكسجين - اللازم لحياة كافة الكائنات - إلى مستويات متدنية جداً.. كما أن العلماء استغلوا التيارات البحرية في دراسة الظروف الجوية القاسية كالأعاصير.

تعليقات