بناء الحجر لأجل البشر

 بين حين وآخر يرفع المعارضون شعار رنان وهذا حقهم.. ولأنهم معارضون فمن المؤكد أن لهم وجهة نظر مغايرة.. وعلى الطرف الآخر أن ينصت إليها بتمعن، فلربما كان فيها من الصواب ما يفيد المجتمع بأسره.. أو ربما كانت خالية من أي وجاهة، ومع ذلك فلا يجب عليه تجاهلها.. بل وتقتضي الضرورة الرد عليها بموضوعية، مرفقة بأدلة ظرفية، لكي تتضح الصورة أمام أعين الشعب، فإما ينتصر للشعار الرنان، أو يميل لكفة الرد عليه.. هنا فقط سيستفيد الجميع.. وبهذا النهج تُبنى الأوطان قوية معافاة من علل السفسطة والضلالات والإيهام.



وشعار "بناء البشر قبل الحجر" فيه وجاهة لفظية، لكنه يخلو - في رأي المتواضع - من منطق سديد.. ذلك بأن بناء الحجر هو الخطوة الأولى والحتمية - لا أقول المهمة وحسب - لبناء البشر.. ولي على ذلك دليل ودليل.. المهم في الأمر أن يفند المعارض معي الأدلة بموضوعية بعيداً عن أي قدح بيننا في الذوات.

ولا أزال أقول وأؤكد؛ بالحجر يرتفع بنيان المسجد والكنيسة، وتحت قبابهما تُبني الروح.. ويتطاول بنيان المدرسة والجامعة، وتحت سقوفهما تُربى الأنفس.. ويشمخ بنيان المستشفى والنادي وبين جنابتهما يُرعى الجسد.. وهل لطقوس العبادة وأمور التعليم والصحة والثقافة والرياضة أن تُمارس -  أو أن تُتابع - في الخلاء أم تحت أستار الخيام؟!

وبالحجر يُستبدل البناء العشوائي والمتهدل لبيوت أهلنا البسطاء بآخر أكثر تناسباً لأدميتهم وحقهم في حياة آمنة مطمئنة.. فيهدأ روعهم بعيداً عن القلق.. ويستقر فكرهم لأجل العمل والانتاج.. وبالحجر تُبطن الترع، ليقل الفاقد من مياه النيل الغالية، وتنخفض معدلات تلوثها، ويزول تقذي العين والنفس من جراء اهمالها أو مما بها من قاذورات.

 وللحجر دور بارز في تشييد المباني الخدمية بكل أنحاء الجمهورية، والتي هي من الشعب، وللشعب عليها الملكية.. وبين طرقاتها ومكاتبها تنجز مصالحه اليومية.. ومن مادة الحجر تُعبد الطرق بمسافات هائلة ما بين توازٍ وتقاطع، وسطحي وعلوي، تعبرها كباري - أيضاً هي من حجر - لكي تختصر الوقت، وتوفر الجهد، وتُختزل أسباب العناء.. ثم هل الطريق المعبد والجسر المختصِر للزمن لا يخدم البشر؟ ولا يستفيد منه الطالب والموظف والعامل في رحلته من وإلى وجهته اليومية؟ وما حال الطريق مع المريض؟ ومرفق الإسعاف؟ وتوزيع الأدوية ونقل الأطباء وطاقم التمريض في ربوع الوطن؟ وما فائدته مع باقي الخدمات وأمور الحياة؟ حتى مع الرحلات الترفيهية والسياحية؟ ثم أهل له دور في الاستثمار كضرورة للنهضة والنماء؟ وقل لي.. ماذا سيشجع مستثمر عاقل لأن يقيم مصنعاً أو ينشأ شركة في بلد بنيته التحتية خربة ومعطلة؟ وما البنية التحتية وتطويرها إلا بعض أحجار فوق بعض أو إلى جوار بعضها البعض، كي تكتمل الصورة فتليق بوطن عظيم؛ علم الدنيا بأسرها أسس البناء، وفن العمارة، وأساليب التنمية.

ثم أليس في بناء القناطر، ومحطات تحلية المياه، وكذا محطات الصرف الصحي، بالحجر فائدة مباشرة للبشر؟ وإلا فمما سيرتوى الإنسان؟ ومن سيحفظ عليه موارده المائية من العبث، والتلوث والأوبئة كالكوليرا والدفتيريا وغيرهما؟ أسمعك تقولها منصفاً.. نعم "أبنية من الحجر تخدم البشر".. وتجعلهم يحيون حياة كلها صحة وعافية وكرامة.. حتى الأبنية التي شيدت من أجل الرياضة وتفاخر بها المصري أمام قرناءه حول القارة والإقليم، تخدم هي الأخرى مفهوم بناء البشر.. لإن الإنسان بحاجة - لا تقبل المساومة - إلى مساحة لبناء جسمه متسقاً مع روحه.. وبالمثل ففي بناء قصور الثقافة والمتاحف والمكتبات، وفي تخطيط الحدائق والمتنزهات، وفي تنظيم الممشى والكورنيش المحاذي لضفة نهر أو شاطئ بحر... الخ، تجد المواطن هو المستفيد الأول، وقبل الكائنات الفضائية مثلاً؟! بل وهنا تعمد الدولة إلى بناء عقله وانعاش نفسه بما راق من منظر ونظام.

كذلك.. فبناء جامعة جديدة في قلب العراء يكفي لأن تكون نواة تدور حولها حركة التنمية والعمران بوتيرة قفازة.. فبعد أعوام قلائل يصبح العراء مدينة مكتملة المعاني والخدمات.. وتواجه مع الدولة والشعب أزمات الانفجار السكاني.. والأخيرة لمنصف معطلة للاقتصاد ومن ثم للتنمية، وورقة ضغط على ولي الأمر والمحكوم.. وكلاهما بشر!

إن إنشاء صوامع التخزين ومصانع الكيماويات الأساسية والمطهرات التي تلزم للصحة العامة بصورة روتينية، وعند مواجهة وباء فتاك هي - بالفعل – شُيدت من حجر لإحياء البشر.. وإنّ شق الترع وحفر الآبار لإيصال المياه للأراضي العطشى كي تهتز فتربو ويخرج منها حب وخضر، لهو أيضاً إحياء للأنفس، وسد لرمقها.. وفي حفر الأنفاق للربط بين بعيدين، أو لتذليل حركة المترو الذي يجوب الأرجاء حاملاً البشر من هنا لهناك، وكذا في قواعد المونوريل الخرسانية، وفي توسعة أرصفة الموانئ  وتطويرها أو إنشاء الجديد منها، حجر إذا نطق لأشاد بمثل هذه الخطة، ولوصفها - بمنتهى الحيادية - بالطموحة.. وكأنه يريد أن يقول  لنا ما معناه "أنا الحجر أتحملكم وأحملكم، فتحملوا بناء وطنكم بشمم.. ولكم العقبى في منازل المجد والشرف.

هكذا.. وبعد هذه النبذة المجملة التي أشرنا فيها حول أهمية الحجر، يتضح - لمن أراد أن يرى - كم هو شعار رنان - أستحي أن أقول أجوف - ليس فيه من الإنصاف ما قدره قالب حجر واحد!


تعليقات