مقال علمي:
كان اكتشاف المضادات الحيوية (Antibiotics) حدثاً جليلاً وفريداً من نوعه، فقد جاء بعد عجزٍ دام طويلاً أمام تفشي الأمراض الميكروبية الفتاكة، وكم حصدت هذه الميكروبات حياة الملايين من البشر على مر التاريخ.
هذا، ويُذكر أن المضادات الحيوية قد بدأ استخدامها في الصين منذ أكثر من 2500 سنة دونما التعرف على ماهيتها المؤكدة، كما أن كثير من الحضارات القديمة – كالفرعونية والإغريقية- كانتا قد استعملتا النباتات في علاج الكثير من الأمراض دون التعرف على المواد الفعّآلة الموجودة بداخلها.
وتقول
المراجع العلمية أن
تاريخ اكتشاف المضادات
الحيوية الحقيقي بدأ
في عام 1841م وذلك عندما
قام الروسيان (ماناسين & بلوتبنوف( بتسجيل ملاحظتهما
حول أن فطر
بنيسيليم (Penicillium) يمكنه قتل
الميكروبات المسببة للأمراض
الجلدية في الإنسان.. وفي
عام 1877م كتب (باستور
& جوبير (تقريراً عن
أن البكتيريا الهوائية
يمكنها أن توقف
نمو بكتيريا (باسيلس
أنثراكس - (Bacillus anthrax المسببة للجمرة
الخبيثة.. أما كلمة
مضاد حيوي فقد
استُعملت لأول مرة
في التاريخ في
عام 1889م على يد
الفرنسى (باول
فولليم(، وذلك لوصف
المادة التي عزلها
من بكتيريا (سيدوموناس
إيريجونوزا – Pseudomonas
aeruginosa)،
وكان لها قدرة
على احداث القتل
لميكروبات أخرى.. وفي
عام 1894م قال (ميكنكوف
& إيرليش (بأن
بعض البكتيريا المترممة
يمكنها أن تُستخدم
للسيطرة على كائنات
حية دقيقة ممرضة.. وفي
عام 1896م فصل (جوزيو (Gosio -مادة بللورية
من السائل المغذي
لنوع من فطر (بنيسيليم
بريفي- كومباكتم (Penicillium bervi-compactum ، والذي كان
يقتل بكتيريا الأنثراكس..
وقد كانت هذه المادة هي
حامض الـ (ميكوفينوليك
(Mycophenolic acid- .. وفي
عام 1899م اكتشف (لو- & ايميرخ) مادة استخدمت كمضاد
حيوي انتجتها بكتيريا الـ )سيدومنوناس بيوسيانيا - Pseudomonas pyocyanea) ، وأسموها – أي المادة - (بيوسيناز - (Pyocyna، وكانت
تستخدم كمطهر موضعي
(Local antiseptic) .. وبين
عامي 1910- 1913م
نجح (السبرج
&
بلاك) في عزل
حامض البنيسيلين (Penicillic acid) ذي الخواص
المضادة للميكروبات من
فطر بنيسليم.
تأثير المضادات الحيوية على نوع من البكتيريا الممرضة علىشكل مناطق شفافة
وفي
ثلاثينيات ذات القرن
اكتشفت مركبات السلفا..
وكان الـ (برونتوسيل
- (Prontosil- أولها فاعلية
ضد عدوى بكتيريا
(ستريبتوكوكس (الحادة على
كل حال. كما
اكتشفت الخواص المضادة
للبكتيريا المعوية لمركبات
الـ (سلفانياميد) بواسطة
الألماني (دوماجك (.. وفي عام 1935م، اكتشف
أن الـ )برونتوسيل (Prontosil- يتحلل
في جسم الكائن
الحي إلى) سلفانياميد
(Sulphanilamid-، ومركب آخر
سام يُدعى) تراي
أمينو بنزين (Triaminobenzene -، والذي لم
يتمتع بأي خواص
كمضاد للبكتيريا.. وفي
عام 1937م، صنع العلماء
السوفيت مركب الـ ) سلفابيريدين (Sulphapyridine- المشابه في خواصه
للـ (برونتوسيل (Prontosil -، كما
تبع ذلك تحضير
مركبات أخرى عديدة،
مثل؛ (سلفاثيوزول - Sulphathiozol)، (سلفاثيدول - (Sulphathidolوغيرهما. وسرعان
ما أحلت كلها
محل مركب الـ )سلفابيريدين (Sulphapyridine – .. ولكن – على الجانب
الآخر – استحوذت المواد
المفرزة بواسطة الكائنات
الحية الدقيقة ذات
الخواص التثبيطية المشابهة
للمركبات المخلقة معملياً
أكثر على انتباه
العلماء، كما كانت
الأقوى في تأثيرها،
والأقل في السمية
والخطورة.
ففي
عام 1939م أكد العالم (رينيه
دوبس) أن بإمكان
بكتيريا التربة أن
تُنتج مضادات حيوية.
وبعد عام واحد
نجح (ارنست
بوريس تشين) و(هوارد
فلورى) في جامعة
اكسفورد البريطانية من
وضع طريقة لاستخلاص
البنسيلين، والتي استغلها
الأمريكيون - إثر انشغال
بريطانيا في الحرب
العالمية الثانية - وأنتجوا البنسيلين
على نطاق واسع!
والحق
يُقال أن البنسيلين
لعب دوراً بارزاً
ومهماً إبان تلكم
الفترة.. والجدير بالذكر
أن كلٍ من (فلمنج)
و)فلورى) و(تشين) قد
حصلوا جائزة نوبل
في عام 1945م لجهودهم
في هذا المجال.
أما أول من
عرّف المضاد الحيوي
كاصطلاح فقد كان
العالم (واكسمان)
سنة 1942م.. وقد استعمله بمعنى "ضد الحياة"
(Against life) ؛ حيث
قال بأنها "مواد كيميائية
تتكون بواسطة الكائنات
الحية الدقيقة، وبإمكانها
تثبيط نمو البكتيريا
وحتي تدميرها بجانب
كائنات أخري دقيقة".. وفي
عام 1957م جاء (ديكر)
وعرَّفها علي أنها
"مواد
تُنتجها الكائنات الحية
الدقيقة وبتركيزات منخفضة
يمكنها تثبيط نمو
ميكروبات أخري أو
قتلها".
وبمضي
الوقت ظهرت للمضادات
الحيوية وظائف أخرى
عديدة، فتارة كانت تُستخدم
كمضادات للبكتيريا، وتارة
كمضادات للفطريات، وتارة
أخرى كمضادات للأميبا، وتارة
كمضادات للأورام.. ولقد جاء
هذا التنوع في
الاستخدام من التنوع
الذي تُحدثه في
التأثير؛ فمنها ما
لديه القدرة على
تثبيط تخليق الجدر
الخلوية وتعطيل وظائف
الأغشية الخلوية، ومنها
ما هو قادر
على منع تخليق
الأحماض النووية بمنع
أو وقف تخليق
الوحدات الأساسية للحمض
النووي من بيورين (Purins)، وبيرميدين (Pyrimidines)، ومنها النوع
القادر على تثبيط
تخليق البروتينات، وهناك
النوع الذي يمتلك
القدرة على تثبيط
بعض خطوات الأيض
بالخلية مؤثراً على
الدورات الحيوية بها!
كان
لكل هذه المزايا
أبلغ الأثر في
دفع عجلة انتاج
المضادات الحيوية مما
أثرى حركة البحث،
ولا يمكن لمُطَّلع
على سبيل المثال
أن يُنكر فضل
علم الطفرات في
تطوير عدد كبير
من السلالات المنتجة..
وهو نفس الفضل
لتقنية الدنا المطعوم
وزراعة الأنسجة، إذ
زادت كل هذه
التقنيات من فرص
تخليق سلالات أكثر
انتاجية وفاعلية.. والأهم
أنها ساهمت بشكل
واضح في خفض
تكلفة الانتاج فصار
المضاد الحيوي في
مقدور ومتناول الجميع،
وقد كان في
بداياته الأولى أشبه
بالممنوعات.. ففي عام 1943م
- على سبيل
المثال - كانت تكلفة
مليون وحدة من
البنسيلين حوالي 18 دولار انخفضت
إلى 0,2 من الدولار
في عام 1960م.. وكانت
تكلفة واحد جرام
من الاستربتومايسين في
عام 1944م حوالي 15 دولار
انخفضت إلي 0,03 من
الدولار في عام 1959م!
وعموما،
فإن أهمية دراسة
المضادات الحيوية - فضلاً عن
فوائدها المذكورة - تكمن في
واحدة مما يلي: معالجة الأمراض
المعدية والوبائية.. علاج الأمراض
الخاصة بحيوانات وطيور
المزرعة.. علاج الأمراض
الخاصة بالنباتات الحقلية..
حفظ الأغذية كاللحوم
والأسماك والجبن والفواكه
والخضروات.. دراسة العمليات
الأيضية في الكائنات
الحية لمعرفة آليات
تخليق البروتين ووظائفه.. دراسة آليات
تخليق المضادات الحيوية
ذاتها من قبل
الكائنات المنتجة.. ظهور فروع
من العلم خاص
بها من حيث
الدراسة والفحص والتخليق،
وصار ممكناً انتاجهم
بطرق الكيمياء التخليقية، أمثال؛
البنسيلينات (Penicillins)،
الكلورومفينيكولات Chloramiphenicol))،
التتراسيكلينات (Tetracyclines)..
كل هذا أدى
إلى تسارع عجلة
البحث عن المزيد
من المضادات الحيوية،
وهذا ما يوضحه
الجدول التالي من
أعدادها المتزايدة باستمرار
بين عامي 1940و 1978م على سبيل
المثال.
ولقد دعت الحاجة العلماء إلى تطوير أدوية جديدة قادرة على تخطي مشاكل كتلك. ومن ذلك توصلهم إلى نوع جديد من الأدوية الذكية التي يمكن أن تكون بديلا ً للمضادات الحيوية، وتساعد على حل مقاومة البكتيريا للأدوية؛ كمثل استخلاص مادة بيبتيدية؛ وهي جزء تفرزه النباتات والحيوانات لمقاومة العدوى، ولها خصائص قريبة الشبه بالمضادات الحيوية. إذ تقوم بعمل ثقوب في غشاء الخلية البكتيرية مما يؤدي إلى تحللها وموتها.
انتاج المضادات الحيوية:
إن
عن عملية انتاج المضادات الحيوية داخل مخمرات تكاد تكون مُعقدة ومتشابكة بعض الشي،
وتعتمد في جوهرها على 9 خطوات رئيسية نُعددها كما يلي:
1- اختيار السلالة المُنتِجة.. إنما
يتم هذا الاختيار في ضوء معرفة كافية بالخواص الفسيولوجية المختلفة للسلالة،
وبقدرتها الانتاجية القصوى، وبثباتها عند التخزين، بمعنى أن يكون معدل حدوث
الطفرات الطبيعية بها أقل ما يمكن، لتلافي تغير سلوكها علي المدى البعيد مما قد
يؤثر بالسلب على عملية الانتاج، وبقدرتها على التجرثم (Sporulation) بحيث يكون معدله بها أعلى ما يمكن، وبمحتواها من الأحماض الأمينية
فيكون لأفضل انتاجية محتوً عالٍ من الأحماض الأمينية..
2- تجديد وتنشيط
السلالة المنتجة.. قبل الاستخدام لضمان النقاوة
ولتفادي تلوثها بميكروبات أخرى.. ثم إنه من المعلوم أن قدرة المزارع المُنشطة
النقية على الانتاج أعلى بكثير من مثيلاتها غير المُنشطة، فالأولى لا تتطلب وقتاً
طويلاً للدخول في طور العمل على النقيض مما تفعل الثانية..
3- تحضير اللقاح الأولي (Inoculum).. من
المزرعة المُنشطة والمُجددة في مرحلة التجرثم وامدادها بوسط النمو السائل..
4- ضبط المخمر على الظروف المثالية لعملية الانتاج..
من حيث؛ درجة الحرارة، تركيز أيون الهيدروجين، نسبة الأكسجين، مصدر كربون مناسب
(سكر)، أملاح مغذية، سلاسل جانبية أو فرعية لتكوين مضادات حيوية متميزة ومتباينة
في الأداء والفاعلية. وفي هذه الخطوة تأخذ السلالة في النمو بمعدل سريع، وبمضي
الوقت يثبت النمو وهذه هي خطوة الانتاج ذاتها..
5- خطوة وقف عملية الانتاج..
وتُعرف بخطوة التبريد (Cooling
step)..
6- خطوة الحصاد
(Harvest step).. وفيها تُجمع السلالة
الميكروبية مُستبعدة باستخدام عملية الطرد المركزي بينما يأخذ المحلول الرائق من
أجل الخطوة التالية..
7- خطوة الاستخلاص
(Extraction step).. وفيها يُستخلص المضاد الحيوي
الذائب من محلول التخمر بالطرق الكيميائية (المذيبات العضوية)..
8- خطوة التنقية
(Purification step).. وتأتي هذه الخطوة فور
الانتهاء من سابقتها حيث يتم تنقية المُنتج النهائي من أي شوائب عالقة قد تؤثر على
فاعليته وأدائه..
9- خطوة البلورة (Crystallization step).. وتجري بهدف الحصول على مضاد حيوي في شكل بلورات مركزة تتحمل ظروف التخزين والنقل وكذلك لأداءٍ أفضل..