تعرف علماء اليوم على أكثر من 10 آلاف نوع من النمل حول العالم.. وتعيش جميعها في مجتمعات غاية في النظام، وتقوم على تعاون مذهل من قبل جميع أفراده حيث يشارك الكل في البناء والدفاع والحس والتحدث، الخ.. وقيل أن النمل يشغل ما مساحته نحو 15% من إجمالي الكتلة الحيوانية في الغابات المدارية المطيرة!
والنملة مخلوق صغير - لا نشعر بوجوده ما لم نُقرص من أحد أفراده - إذ يبلغ طول الواحدة من 2 مم وحتى 25 مم.. وللنملة رأس كبير بالنسبة لحجم جسمها، ويحوي دماغ على درجة عالية من التعقيد؛ به مخ صغير يقل طولاً عن 1 مم، ويتألف من فصين رئيسيين، ومراكز عصبية وخلايا حسية مميزة.. وبهذا الدماغ تستطيع النملة التفكير بسرعة، وإجراء حساباتها بكل دقة، لتتمكن من إطلاق إنذار مدوي لدى تعرض المستعمرة للهجوم المباغت.
والنملة خلقها المولى عز وجل على هيئة
مكنتها من أداء مهامها الوظيفية داخل المستعمرة.. فبنائياً، للنملة عيون مركبة تمكنها
من رؤية الأشياء، والعين الواحدة محاطة ببعض الشعيرات الدقيقة لحمايتها.. وللنملة 6
أرجل تنتهي بمخالب، تستعملهم للمشي وفي تنظيف الجسم ومعالجة الغذاء، وقرني استشعار
تستخدمهما لتحسس الأشياء وللتذوق والشم، وبطن بيضاوية، وخصر نحيل، وفكان تستطيع
بهما حمل أشياء ثقيلة جداً قياسا لحجمها ووزنها، كما تستخدمها للحفر، ولها فكان آخران
إلى الداخل وظيفتهما مضغ الطعام.. وللعلم ففك النملة أقوى بكثير من فك التمساح بالقياس
إلى حجم كليهما.. يذكر العلماء أن النملة تستطيع حمل أشياء تزن 20 ضعفاً لوزنها،
وهذا شيء خارق، إذ لو كان الرجل الذي يزن 100 كجم بقدرة النملة لأمكنه رفع سيارة -
مثلاً - وزنها 2000 كجم بسهولة ويسر! وللنملة قلب أنبوبي الشكل يدفع دمها عديم
اللون في سائر أجزاء جسمها.. ولها جهاز للهضم وآخر للتناسل.. ولها ما يشبه الرئتين
مؤلف من مجموعة أنابيب تدفع الهواء خلال جسدها للتنفس.
كما زُوِدَت النملة بقدرتها على إفراز
مواد كيميائية مطهرة، تستطيع بواسطتها تعقيم أعشاشها وتطهير اليرقات والبيوض كي لا
تهلكها البكتريا والفطريات.. وآلية ذلك أن النملة تغلف الشرانق بغلاف من هذه المواد..
كما تستخدمها لتطهير غذائها المخزن لفترات طويلة الأمد.. فضلاً عن ذلك تفرز النملة
- كوسيلة دفاعية - حمض النمليك، والذي يُعد مادة مخدرة للعدو.
ومن النمل انواع تبني أعشاشها
على عمق 10 أمتار تحت التراب ، حيث تكون درجة الحرارة مناسبة له طيلة أيام السنة، وقد
زوده الله تعالى بذكاء فطري لصيانة هذه الأعشاش من الأعشاب الضارة وبقايا الطعام، وترتيب
المنزل بشكل جيد!
وتتغذى النملة عن طريق تحويل طعامها إلى الحالة السائلة، بأن
تخلطه بعصارات هاضمة ، وفي نفس الوقت توجد لديها آلية تمنع دخول جزيئات الغذاء الصلبة
إلى المنطقة الهضمية.. وعند بحث النملة
عن طعامها فإنها تترك خلفها فيرمونات (وهي مركبات كيميائية تفرز للتواصل بين أفراد
الأنواع الواحدة في عالم الحيوان) تدل على وجودها في هذا المكان كي يتمكن باقي
أفراد السرب من الوصول لمصدر الطعام المكتشف.. ويُعرف هذا السلوك بـ (ذكاء
السرب).. أي أن الفيرمونات تستخدم وكأنها "ذاكرة خارجية مشتركة" بين
أفراد المستعمرة لبلوغ مصادر الغذاء المختلفة.. ويرى العلماء أن "ذكاء السرب"
هذا يُعد "ذكاء جمعياً" يصنعه الجميع لحل مشكلات المجتمع بمشاركة
الجميع.. ومن استخدامات هذا الذكاء أيضاً؛ دفع المفترسات بعيداً عن أفراد السرب، حيث
يتجمعوا - ذكور وإناث - في كيان يبدو من بعيد في عيون المهاجمين ضخماً فيؤدي ذلك
إلى حمايتهم ببعضهم بعضا.
ومن مظاهر أهمية تأثير الرائحة في مجتمع النمل ما أكدته نتيجة إحدى
التجارب المثيرة التي أجراها الباحثون، حيت تم غمس "نملة حية" برائحة "نملة
ميتة"، ثم أعادوها مرة أخرى إلى عشها، لكن هال العلماء أن النمل أخرجوا هذه
النملة من عشهم ظناً منهم أنها ميتة، وكلما حاولت النملة العودة إلى العش تصدوا
لها وأخرجوها، وما أن أزالوا عنها الرائحة المضافة حتى سمحوا لها أخيراً بالرجوع
إلى بيتها!
هذا، ويعيش النمل على سطح الأرض منذ 92
مليون سنة، أي زامن عصر الديناصورات، ومع ذلك فقد هلكت الأخيرة في حين استمرت
النملة؛ ذلك المخلوق الضعيف في الحياة إلى يومنا هذا.. فيا سبحان الذي أعطى كل شيء
خلقه ثم هدى.. وربما بقي النمل لأن له وظائف بيئية غاية في الأهمية، فمثلاً؛ عثر
العلماء على نوع من النمل يعيش بصفة دائمة في شجرة (الخرنوب) على محلول سكري تفرزه
الشجرة من خلال فتحات خاصة، كما يتغذى النمل على أوراق هذه الشجرة لأنه صغير
ومناسب لصغارها.. وفي المقابل يدافع النمل عن هذه الشجرة من مهاجمة بعض أنواع
الحشرات الضارة، عن طريق لسع النمل لهذه الحشرات الغازيةّ! كما ثبت للعلماء ضرورة
النمل للحفاظ على البيئة، إذ لاحظوا أنه يأكل الحشرات ويقلب التربة فيدخل الهواء
إليها، وهي غذاء مهم للعديد من الحشرات، ويلقح الزهور أحياناً، ويحرك المادة
العضوية في التربة.
إن النمل يقوم فعلياً بتنظيم النظام الايكولوجي للغابات كونه لاعب
رئيسي في التنوع الحيوي بها، وبواسطة السيطرة على بعض الحشرات الضارة التي تصيب
الأشجار، وبتخليص الطيور مما يعلق في أجنحتها من حشرات وطفيليات ضارة تعوقها من
التحليق، وبكونه مذلك يمثل - أي النمل في حد ذاته - غذاء بروتيني للطيور في هذا
النظام.
على الجانب الآخر، تتشكل مستعمرة النمل
من عدة نملات فقط وحتى الملايين منها.. وهنالك مستعمرات تبلغ مساحتها أكثر من 2.7
كيلو متر مربع، وتحتوي على أكثر من مليون ملكة، وأكثر من 300 مليون عاملة، تعيش فيما
يزيد عن 45 ألف عش.. وللعلم فقد اكتُشفت هذه المستعمرة في اليابان عام 2002م..
وعن أكبر مستعمرة نمل على وجه الأرض فهي مؤلفة من
مليارات عديدة من النمل الأسود ويقال أنها هاجرت من الأرجنتين ثم احتلت المسافة التي
بين سواحل المتوسط الواقعة والريفيرا الإيطالية وجنوب إسبانيا.. وللعلم فهي تبلغ
حوالي 6000 كم!
وتتألف المستعمرة من نملات عاملات وهي
ما لا يمكنها التزاوج، حيث تؤدي معظم العمل كجمع الغذاء، ورعاية الصغار، والدفاع
عن المستعمرة.. وهناك الملكة - كما في خلايا النحل – وتجدها ذات أجنحة وأكبرهم
حجما، كمت أنها الوحيدة القادرة على التزاوج.. وتتزاوج الملكة مع ذكور النمل ذي
الأجنحة كذلك، حيث تنتج البيض، والذي عن نمل عامل وملكات جدد.. وهناك أيضاً ذكور النمل
الذين لا ينحصر دورهم في التزاوج فقط ثم يموتون مباشرة بعد تلقيح ملكتهم.. والمدهش
أن البيض الملقح سيتحول إلى نملات ملكات أو عاملات، أما البيض غير الملقح فسوف يتحول
إلى ذكور فيما بعد.. وعموما، فالملكة تنتج ملايين البيض، ومع كونها ضعيفة إلا ان
الله سبحانه وتعالى قد طفل له الحماية عن طريق ما زود به النملة من قدرة على إفراز
مواد مطهرة تحفظ بها هذه البيوض صحيحة وسليمة من أي مكروه قد يعتريها.. ومثال من
المهم ذكره في هذا السياق ألا وهو أن ملكة نملة النار تضع 100 بيضة في الساعة
الواحدة بشكل مستمر فتنتج ملايين البيوض!
وعش النمل - أو بيته
– فهو مكون من عدة أقسام؛ ففيه - مثلاً - غرف للصغار وغرفة للملكة، وغرف لتخزين الطعام
كما سبق وأشرنا.. ومع ذلك فلكل عش حجمه حسب وظيفته؛ فبعض الأنواع له عش مكون من
غرفة واحدة فقط وحجمها صغير إذ لا تزيد على حجم أصبع اليد، ويحتوي على عدد من
النمل ما بين 12-300 نملة، وأنواع أخرى في المناطق المدارية تبني أعشاشها على عمق
12 م تحت سطح التربة، بحيث يضم ملايين الأفراد، وبعض أنواع النمل في قارتي أوروبا وأمريكا
الشمالية يبنون أعشاشاً عظيمة حيث تتألف من تلال كبيرة متصلة بأنفاق تحت سطح
التربة.. وستندهش إذا علمت أن العلماء قد قدروا مساحة تلك التلال بما يماثل مساحة
ملعب تنس!
وتركيزاً على السلوك الاجتماعي للنمل فهة يُعد الأكثر تعقيداً بين الأنظمة المختلفة في عالم الحشرات.. ولأهمية ذلك، ذكر الخالق عز وجل في القرآن - من خلال سورة (النمل) - قدرة النمل على التكلم عن طريق وجود لغة خاصة تتفاهم من خلالها النمل وتتواصل حتى عن بعد.. وليس أدل على ذلك من يقول الخالق جلا في علاه عن النمل عند ذكر قصة سيدنا سليمان عليه السلام: "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ*فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ" (سورة النمل - آية: 18-19).
إن النظام الاجتماعي لدى النمل كما أشرنا هو عبارة عن نظام طبقي، ويجري
على أساسه تقسيم العمل بين أفراده؛ إذ يلتزم عدد قليل من الملكات بمهمة الإنجاب، في حين يتكفل الآخرون بالعناية بصغار النمل وبحراسة المستعمرة..
ومن روعة مجتمع النمل أن أفراده قادرون على بناء مدنهم من مكونات الطبيعة حولهم، وشق
الطرقات بها، وحفر الأنفاق لزوم التنقل السري، وإقامة الحدائق، وتخزين المؤن في
مستودعات مأمنة.. أما عجيب ما قرأناه أن هناك من النمل من يشن حروباً على مجتمعات
أخرى من النمل، بل ويأسرون أفرادا من القبيلة المهزومة ويسخرونهم في العمل والخدمة.