الفيروس: ذلك الجماد الغازي!

تبدأ قصة الفيروسات حين اكتشفها العالم الروسي (إيفانوفسكي) في عام 1892م دون أن يدري.. ولقد عرف آثارها، لكنه لم يعرفها قط.. ولقد أمضى الرجل زمناً يجرى تجارباً على نبات التبغ المصاب بمرض التبرقش؛ حيث تظهر مساحات باهتة على أوراقه الخضراء فتبدو مبرقشة.. وكان (إيفانوفسكى) يظن أن السبب وراء هذا المرض هو "ميكروب حي".. لكنه والعلماء لم يستطيعوا أن يعزلوا هذا الميكروب أو يعّرفوه.

وقد اعتمدت تجربة (إيفانوفسكى) الشهيرة على طحن أوراق نبات التبغ المصابة بالتبرقش حتى أمست عصيراً، ثم صب منه قطرات فوق أوراق نبات تبغ سليم فحدثت الإصابة، وظهرت الأعراض ذاتها من جديد.. ففطن (إيفانوفسكى) وقتها أن الميكروب الحي في هذا العصير هو الذي أحدث الإصابة، لذا عمد إلى تأكيد ظنه عن طريق ترشيح عصير الأوراق المصابة عبر مرشح دقيق يقوم بحجز كافة الميكروبات، وحصل من خلاله على محلول رائق بدون ميكروبات.. وفعلاً أتم التجربة الفائقة بقطرات من هذا المحلول الجديد.. ثم انتظر فحدثت العدوى ووقعت الإصابة مرة أخرى، ما أصاب الرجل بدهشة بالغة.. وتساءل ألم يحجز الميكروبات الموجودة في العصير، ومؤكد أن من بينها ميكروب الإصابة؟!

عند هذا الحد توقف (إيفانوفسكي) ولم يدر بخلده أن الذى أحدث الإصابة ما هو إلا فيروس وليس بكتيريا أو أي ميكروب آخر.. إذ لم يكن أحد يعلم بالفيروس - وقتذاك - ولا بماهيته.. ولكن بعد أعوام سبعة أجرى العالم الهولندي (بايجرنك) تجارباً مشابهة لتجارب (إيفانوفسكي)، وحصل على نفس النتيجة، لكنه لم يتوقف عن حد الاندهاش كسابقه، بل أطلق على المحلول المرشح بما يحوي من عناصر مسببة للمرض "المحلول المعدي الحي"، ثم تبعه بعض العلماء وراق لكل منهم منهم اسماً أطلقوه على هذا المحلول.. فمنهم من أسماه "محلولاً معدياً".. ومنهم من أسماه "عاملاً لإحداث الأمراض المختلفة".. وهكذا.. ثم حدثت نقلة محورية على الطريق في التعرف على ماهية الفيروسات.. كان ذلك في عام 1935م، حين نجح العالم الأمريكي (وندل ستانلي) في فصل "المحلول المعدي" في شكل بلورات بيضاء اللون إبرية الشكل طويلة.

العجيب فيما اكتشفه العلماء أن الفيروس "كائن يجمع بين خواص الجماد وصفات الكائن الحي".. فمن حيث كونه جماد فقد كان أن بالإمكان فصله بالطرق الكيميائية في صورة بلورية نقية في أشكال مختلفة.. وهذا ليس أبداً من صفات الكائن الحي.. ثم أنه لا ينفق في حالة الكمون بل يبقى هكذا حتى يدخل خلية حية فيتحول بقدرة الخالق العظيم إلى كائن حي يتكاثر، ويتأثر بالعوامل البيئية المحيطة من حرارة وإشعاع ومواد قاتلة فتاكة.. ثم أن بإمكان الفيروس إحداث تغيير في شفرته الوراثية منتجاً نوعاً من الطفرة التي تلائم ظروف معيشته.. لهذا تجده يقاوم عدد كبير من طرق مكافحته لاسيما المواد الكيميائية والمضادات الحيوية.. فتراها لا تفلح معه على المدى؛ إذ بالتغيير في شفرته الوراثية كأنما يتحول إلى فرد جديد بصفات جديدة!

 

التركيب العام للفيروس:

بدايةً، الفيروس كما يعرفه العلماء هو "جزيئات كيميائية عملاقة نقية تتكون من غلاف بروتيني مقسم إلى ما يسمى معطفCoat) ) وذيل (Tail).. ومادة وراثية بسيطة عن مثيلاتها في كل مخلوقات الله تحكم تصرفات الفيروس داخل النسيج الحي".. ولا تمتلك معظم الفيروسات إلا هذا التركيب.. فلا إنزيمات.. ولا هرمونات.. ولا بروتينات متخصصة.. ولا سيتوبلازم.. ولا أجهزة عضوية تهيم بالسيتوبلازم كمثل الموجودة في جميع المخلوقات الدنيا والعليا.. ومع هذا، فهناك فيروسات أكبر حجماً تحتوى إلى جانب التركيب النموذجي على إنزيمات ودهون.. ولكن لا يمّكِنها هذا من العيش مطلقاً بلا عائل.. فالعائل هو نقطة الارتكاز التي ينطلق منها الفيروس في طريقه نحو الحياة!      

          ولعل من أهم ما يميز الفيروسات هي أنها خاملة كذلك، فجميع الفيروسات تعيش متطفلة على خلايا العائل الذي تصيبه.. والمادة الوراثية في الفيروس على نوعين لا ثالث لهما ؛ دنا DNA)).. ورنا RNA)).. ولقد شاع أن الفيروسات التي تصيب النباتات لا تحتوى  إلا على جزيئات رنا RNA)).. فيما تحتوى تلك التي تصيب الحيوانات على أي من النوعين المذكورين.. ومن أمثلة الفيروسات الحيوانية التي تحتوي على جزيئات دنا DNA)فيروس الحمى الببغائية في الإنسان وطيور الزينة، وفيروس الورم الحلمي في الأرانب، والفيروسات الميكروبية أو لاقمات البكتيريا.. أما الفيروسات الحيوانية التي تحتوي على جزيئات رنا (RNA)فمثل؛ فيروس شلل الأطفال، وفيروس الإنفلونزا.

 

كيف حدد العلماء حجم وشكل الفيروس:

حاول العلماء في بداية معرفتهم بالفيروسات تحديد أحجامهم أو بالأصح قل تحديد اقطارهم.. ولكن التقنيات لم تكن تسعفهم كثيراً.. ومع ذلك أسعفتهم نعمة التفكير المنطقي؛ حيث استعانوا بأغشية ترشيح ذات مسام دقيقة جداً قيست بالميللي ميكرون ( من5 - 300 ميللي ميكرون) حسب حجم الفيروس.. فإذا ما مر الفيروس في محلوله على هذه الأغشية المسامية المحددة الأقطار أمكن تحديد بين أي قطرين يقع قطره ثم في الخطوة التالية يمر المحلول ذاته على أغشية أخرى كثيرة في المدى المحدد إلى أن يمر من إحدى الأغشية بصعوبة هنالك يصبح قطر الفيروس تقريباً هو نفسه قطر الغشاء.. وهكذا.. وبذا كانت هذه الطريقة في الواقع مرهقة إلى حد بعيد.. ولذا فكر العلماء في حل بديل.. والذى تمثل في استخدام أجهزة الطرد المركزية ذات السرعات الفائقة.. وتحديداً، تعتمد هذه الطريقة على نظرية أن الأوزان تترسب بسرعة كلما زادت، والعكس صحيح.. ومن هنا استطاع العلماء أن يحددوا أحجام الفيروسات المختلفة.. ولقد وجدوها متباينة إلى حد كبير فهناك مثلاً فيروسات ما بين 10 – 300 ميللي ميكرون كفيروسي الحمى القلاعية والجدري على التوالي.

وحين ظهر الميكروسكوب الإلكتروني في حيز الوجود قبيل الحرب العالمية الثانية، أمكن تصويرها.. وكان الفيروس الأول في ذلك الحدث المثير هو فيروس تبرقش ورق نبات التبغ.. والذي بدا واضحاً من صورته الإلكترونية أنه عبارة عن "عصى طويلة دقيقة"، سمك الواحدة 15 ميللي ميكرون، وطولها 300 ميللي ميكرون، وتلتحم ببعضها البعض فيما يشبه قواعد عود القمح.. ومن هنا استقر العلماء على أن الفيروسات على أشكال كثيرة منها؛ المستطيل، والعصوي، والكروي، والصولجاني، والمضلع، وعديد الأضلع، وما له رأس كبير وذيل قصير، إلى غير ذلك من أشكال وأحجام.

 

تخصصية الفيروس:

من بين أهم ما يميز الفيروس أنه "كائن متخصص بطبعه".. بل هو شديد التخصصية؛ فهو لا يغزو إلا خلية بعينها، أو نسيج بعينه.. ولكل خلية فيروسها الذى لا يصيبها سواه.. ولكي يحدث ذلك، وتقع الإصابة، فلابد وأن تتوافق شفرات المادة الوراثية للخلية الحية محل المهاجمة مع المادة الوراثية للفيروس المهاجم.. وحتى لو غيرت الخلية من صفاتها الوراثية، وأنتجت طفرة جديدة، فالفيروس لا يقف بموقف المتفرج، بل يعمل - هو الآخر - على تغيير مادته الوراثية ليظل الوفاق بين الشفرتين قائماً إلى الأبد.. ومن بين الأمثلة على هذا التخصصية ما يلى:

Ø     لا يستطيع فيروس تبرقش نبات التبغ أن يغزو إياها..

Ø  يصيب فيروس بعينه بكتيريا بعينها فيما يُعرف بـ (لاقمات البكتيريا).. بل قد يكون للبكتيريا سلالات فتجد للفيروس هو الآخر سلالات تتبعها وتصيبها..

Ø  هناك فيروسات تصيب الخيل.. وأخرى تصيب البغال.. وثالثة تصيب الحمير.. ولكل فيروس مرض يحدثه وأعراض تظهر..

Ø  حين يغزو الفيروس المسبب لمرض الكلب (أو السعار) أي من الكلب أو الذئب أو الإنسان فإنه لا يعيش إلا داخل نسيج خاص.. ثم هو يتكاثر في خلايا المخ، ومنها إلى اللعاب الذي يحمل تبعاً مسببات الإصابة والعدوى..

Ø  ينقل نوع خاص من البعوض الفيروس المسبب لمرض الحمى الصفراء، وذلك عن طريق العض وما يسيل معه من لعاب حاملاً الفيروس إلى دم العائل المصاب.. وغالباً ما يكون الإنسان..

Ø  ينقل القمل – عن طريق برازه – فيروس التيفوس إلى كل من الإنسان والحيوان.. ولكل عائل قمله.. ولكل قمل فيروسه.. 

 

خطوات الإصابة الفيروسية:

يهاجم الفيروس الخلية الحية النشطة، والتي ما إن يدخلها حتى يتضاعف نشاطها ويقوم بسحب العناصر الغذائية من الوسط المحيط بها بمعدل أعلى.. هذه المواد ستنفع الفيروس بالتأكيد في عملية تضاعف مادته الوراثية، وتكاثر أعداده إلى أضعاف مضاعفة.. وفي الحقيقة يبدأ الفيروس مهاجمة الخلية الحية بالتخلي عن معطفه البروتيني خارجها فيما تلج مادته الوراثية إلى الخلية قاصدة مادتها النووية الوراثية، وذلك بهدف السيطرة عليها، وبالتالي على سائر أجهزتها الحيوية.. وهكذا فإن الخلية ترضخ حينذاك كلية لسيطرة الفيروس، وتوجه مسارات العمل بها لخدمة الفيروس الذى يخلف لنفسه ذرية هائلة ونسلاً عظيماً.. وعلى كل حال فقد تعرف العلماء على مراحل الحياة والتكاثر للفيروسات، وقد وجدوا أن الفيروس ينمو عبر ثلاث مراحل أساسية، هي كما يلي :

1.    دخول الفيروس إلى الخلية الحية المطلوبة.. ومما يجدر ذكره أن معظم الفيروسات "تحتاج إلى دمج أغشيتها مع غشاء الخلية حتى تتمكن من الدخول إليها".. ولا يحدث هذا إلا بوجود مستقبلات على أغشية الخلية تناسب العناصر الموجودة على أغشية الفيروس..

2.    تسخير الخلية الحية لإنتاج العناصر الضرورية اللازمة لتكاثر الفيروس..

3.    انطلاق الفيروسات الوليدة مكتملة النمو والتركيب من الخلية..

ومن العجيب أن الخلية الحية برغم احتوائها على إنزيمات محللة، من بينها ما هدفه تحليل المادة الوراثية عند موت الخلية، غير أنها - أي هذه الإنزيمات - لم تتمكن من تحليل المادة الوراثية الفيروسية.. ولعل السبب وراء ذلك هو أن "جزيئات  الفيروس الوراثية صورة عكسية للجزيئات الوراثية في الخلية".. وهكذا تفلت الأولى بذكاء وفطرة من تأثير مثل هذه الإنزيمات المحللة!

على الجانب الآخر، نجح الإنسان في تنمية الفيروس معملياً (أي خارج الخلية الحية).. وتم ذلك بتحايل بسيط جداُ أدركه العلماء.. فالفيروس لا يعنيه من الكائن الحى سوى بعض خلايا متخصصة.. وهذا ما بالإمكان عمله.. كأن تفصل بعض الخلايا الحيوانية أو النباتية (حسب نوع الفيروس المراد تنميته) بتقنية زراعة الخلايا والأنسجة ، ثم تنمى جيداً في ظل ظروف قياسية توفر لها سبل الحياة كاملة من غذاء وهواء وحرارة.. الخ، بعد ذلك يحقن بها الفيروس كي يتسنى للعلماء دراسته دراسة علمية مستوفاه!

 

مراحل تكاثر الفيروس داخل الخلية الحية

تعليقات