أسلفنا فقلنا أن الحشرات عالم كبير ومعقد سواء في بناءه أو في علاقاته.. ومن بين ما يميز بعض أنواعه قدرتها على المعيشة في مجتمعات كاملة كالتي لبني البشر تماماً، تُعرف بالمستعمرات والخلايا.. وعلى رأس هذه الحشرات؛ النحل والنمل.. والمستعمرة فيهم مؤلفة من طبقات مجتمعية، ولكل فرد فيها له وظيفة محددة لا يحيد عنها بحال من الأحوال؛ فهناك الملكة والملك والشغالات، والآخرون هم الأكثرية من حيث العدد، ولهم توكل كل وظائف الحياة باستثناء تلقيح الملكة الذي يؤديه ذكور التخصيب، ووضع البيض وتؤديه الملكة.. تلك النوعية من الحشرات التي تحكم أفرادها علاقات اجتماعية منظمة.
وتتواصل حشرات عديدة في الظلام أو كدعوة للتزاوج
أو للدفاع عن النفس عن طريق اصدار الأصوات أو اللمس أو الشم أو التلون أو مواد
تفرزها في شكل روائح أو رقصات تؤديها، إلى غير ذلك من اشارات.. تنجذب بعض الحشرات -
كأي ذكر وأنثى - تجاه بعضها في فترات
التزاوج عن طريق أصوات تصدرها بشكل متكرر
فيما يستقبلها الطرف الآخر عبر آذان خاصة بذلك.. وتلتقط بعض الحشرات الأصوات بقرون
الاستشعار.. فيما يلتقط البعوض أصوات رفرفة الإناث بقرون استشعاره المهدبة.. وتصدر
عن الديدان المضيئة لون أزرق لجذب الحشرات الصغيرة ثم تقبض عليها بسيقانها
الأمامية.. تفرز الملكة في المستعمرات الاجتماعية كيماويات طيارة تُدعي
(الفورمونات) بهدف تنشط أفراد المستعمرة تجاه العمل، كما يمكن لذكر فراشة دودة
القز أن يتعرف علي أنثاه من خلال الفورمونات التي تفرزها الأخيرة من علي بعد أميال
عديدة.. وتطلق النملة روائح مميزة في خط سيرها لتتبعها زميلاتها من أجل جمع الطعام
والعودة به إلى أوكارها.. وأيضاً يرقص نحل العسل لكي يدل زملائه عن أماكن الطعام
حتى ولو كانت بعيدة جداً.
على الجانب الآخر، فهناك
علاقات أخرى عديدة تحكم عالم الحشرات، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ علاقات الافتراس،
المعيشة التكافلية، التطفل، التسخير.. وسنشير إلى كل منها بحديث موجز في السطور
التالية.
Ø علاقة
الافتراس: ويُقصد بها
"علاقة مؤقتة بين حيوانين أولهما يُسمى (المفترس)، والثاني يُعرف بـ (الفريسة)..
وفيها يستهلك الأول الثاني؛ كله أو جزء منه".. ومثال ذلك؛ أن يقوم الأسد
بافتراس الغزال أو الحمار الوحشي، أو أن يقوم الذئب بافتراس الشاة، إلى غير ذلك من
أمثلة معلومة للجميع.. وفي الحشرات على وجه الخصوص، من أبرز صفات المفترسات أنها تتمتع بالنشاط الدائم
وحركتها الدؤوبة بطوري الحشرة الكاملة واليرقة.. ولو أنها في الغذاء أقـــل تخصصاً
مـــن الحشرات الطفيلية، إلا ان هناك منها حشرات مفترسة متخصصة مثل حشرة (أبو
العيد).. وللحشرات المفترسة عدة أســـاليب للإجهاز على فرائسها، وإن كان أغلبها
يتم بقتل الفرائس فـــي التو بسبب مـــا يفرزه المفترس داخل أجســامهم من مواد
ســـامة تخدرهم وتشـــل حركتهـم، ثم يبـــدأ بالتهامهـم، أو بامتصـــاص محتويات
أجســامهم! وأجـــزاء فم المفترس تكون من النـــوع القارض ذي الفكوك القوية في
أغلب أنواعها.. وفي لحشـــرات تابعة نصفية الأجنحة أجزاء فمها من النوع الثاقب
الماص.. وتمتلك الحشرة المفترسة أعضاء حسية خاصة؛ بصرية أو لمسية أو شـــمية، وذلك
لاكتشـــاف فريسـتها ومطاردتها.. استغل العلماء
هذه الظاهرة في مقاومة الحشرات الضارة بالمحاصيل فيما يُسمى (المقاومة البيولوجية)..ولعل
من أهم المفترسات التي تستخدم للمكافحة الحيوية عائلة أبو العيد، مثل حشرتي أبو
العيد ذات السبع نقاط، وأبو العيد ذو النقطتين، فضلاً عن أفراد عائلة الخنافس
الأرضية.. حيث تتغـــذى في طـــوري اليرقة والحشـــرة الكاملـــة على غيرها من
الحشـــرات مثل المن، والبق، وعلى العناكب الحمـــراء.
Ø علاقة المعيشة التكافلية: بدايةً، يُقصد بعلاقة المعايشة "علاقة
سطحية بين حشرتين يعيش أحدهما - ويُعرف بـ (المتعايش) - فيها مع الآخر - ويُعرف يـ
(المضيف) - بحيث يعود النفع على المتعايش، في حين لا تعود أي فائدة على المضيف،
كما لا يصيبه اي ضرر".. أما تبادل المنفعة وهي ذاتها علاقة التكافل فيقصد بها
"علاقة بين حشرتين - أو حشرة وكائن حي آخر - يعيشان معاً ويقومان بتبادل المنفعة،
إذ ينتفع كلاهما من الآخر بقدر ما يعطيه ومثال ذلك تبادل المنفعة بين كل من النمل
الأبيض ونوع من الأوليات الحيوانية المتحركة بالأسواط..
Ø علاقة التطفل: ويقصد بها "علاقة بين حشرتين - أو حشرة
وكائن حي آخر - بحيث يعتمد أولهما - ويُعرف بـ (الطفيل) - على الثاني - الذي يُعرف
بـ (العائل) - في بناء خلاياه، ويظل يستمد منه طعامه كي يستمر حياته لكنه في نفس
الوقت يسبب له أضرار بالغة تختلف في شدتها من علاقة إلى أخرى".. ومثال ذلك ما
يحدث بين بعض الحشرات والعناكب.. ومن التطفل نوعان رئيسيان خارجي (حيث يضع الطفيل بيضه على جسم عائله، ليفقس عن يرقات تتغذى على سطح
الأخير) وداخلي (حيث يضع الطفيل
بيضه داخل جسم عائله، ومن ثم يتغذى الطفيل داخل جسم العائل).. ويتم التطفل على واحدة من أربعة صور؛ على البيض، أو على اليرقات،
أو على العذارى، أو على الحشـرات الكاملة..
Ø علاقة
التسخير: ويُقصد بها
تسخير حشرة ما في خدمة أخرى أو في السيطرة على نشاطها الضار.. وهي أكثر وضوحاً في
مسألة المقاومة الحيوية.. فمثلاً أجرى علماء أمريكيون تجربة حشرة المن من النوع (مايزس
بيرسكاي) - الضارة بالمحاصيل - على أوراق نبات تحمل رائحة نوع من الخنافس المفترسة
يُعرف بـ (خنفساء المهرج)، وأوراق من دون رائحة هذه
الخنفساء.. وكانت نتائج التجربة مدهشة؛ حيث وجد الباحثون أن تعرض المن لرائحة
الخنفساء أثر على خيارات الحشرة، وخفض معدل تكاثرها، وأثرت بالسالب على معدل نمو أجنحتها.. ومن المعلوم أن حشرة
المن تُعد غذاء مفضل للخنفساء الدعسوقة.. وتطبق الأخيرة كخيار آمن وفعال للمقاومة البيولوجية
للآفات.. هذا، وقد تجنبت حشرة المن مهاجمة محصول للكرنب كان قد تم رشه برائحة
الخنافس وكأنها موجودة فيه فعلياً..
الجدير بالذكر، أن الخنفساء تأكل حشرات أخرى غير المن، لهذا فمن المرجح أن يجرب
العلماء استخدام رائحتها لمزيد من مكافحة آفات أخرى ضارة.. كذلك فإن تكييف نوع من نحل العسل (أبيس ميلليفيرا) للتعرف على روائح
الزهور ورحيقها وحبوب اللقاح نوع خاص من تسخير الحشرات لأجل أهداف مميزة ومفيدة.. إضافة
إلى ذلك، فقد أظهرت بعض الدراسات - التي استهدفت تعليم الحشرات وتسخيرها لأجل مهام
وخواص استثنائية - أن هناك وجه شبه بين كل من نحل العسل والنمل فيما يخص تشكيل
الذاكرة وقدرتهما على الاحتفاظ بمعلومات التعلم
لنحو 72 ساعة بعد برنامج التدريب، والذي كان قد أجري على تطوير حاسة الشم
في نوع من نمل الخشب ( فورميكا روفا)..