روائح كريمة

 قصة طويلة:






روائح كريمة


بقلم

 د. حسن عبد الله الشرقاوي

*************

اهداء

"إلى كل روحٍ جميلة ترى الوجودَ جميلا"

(المؤلف)

**************

ظل (سعد) يحلم باليوم الذي ينتج فيه عطوراً ليست كمثل أي عطور مما يستخدمها الناس.. ومكث أوقاتاً طويلة في البحث والتنقيب والتجريب في معمل العطور القديم الكائن بالمنطقة المهجورة المتاخمة للحي السكني المكتظ بقاطنيه، والذي ورثه عن أبيه. ومن طول ما قضى من وقت في هذا الأمر دأبت زوجته – وتُدعى (إمتثال) - على مهاجمته لاسيما الشهرين الآخرين، إذ رأت أن دخل الأسرة قد قل، مما عطل شئونها.. فلا خروج ولا زيارات ولا مشتريات ولا فسح؛ فقط عمل ومعمل وانفاق بلا أي طائل.. مما اضطر (سعد) إلى الاستدانة من صديق عمره - ميسور الحال - (الحاج لطفي) صاحب معرض الموبيليا الشهير ليجابه احتياجات أسرته وأبحاثه.

كان (سعد) بطبعه شخص مرهف الحس.. قليل الكلام.. كثير التأمل.. تميزه طيبته بين أهله وجيرانه، فلا يجتمعون، إلا وكان أطيبهم.. ولا يتحدث، إلا وكان ألطفهم.. تمنى أن لو كان أتم تعليمه بعد البكالوريا، لصار عالماً ذا شأن ومكانة، لكن وفاة والده في هذه الأثناء، حمله عبء مواصلة عمله، فورث هو المعمل، وورث أخوه (سعيد) بيتهم في القرية، فضلاً عن نصيبه من الطين، وتمادى فوضع يده على نصيب (سعد)، ثم تعنت في ارجاعه بحجة أنه وأولاده من تولوا الأرض  بالرعاية!

على الجانب الأخر، توصل (سعد) - فعلياً - بعد نجاح تجاربه الأخيرة إلى أربع تركيبات من العطور التي تبدو في ظاهرها كأي عطور، لكنها - في الحقيقة - تمتلك تأثيراً عجيباً يظهر بعد ثواني معدودات؛ فالأولى مثيرة للغضب، والثانية مهيجة للغرائز، والثالثة مهدأة للأعصاب، أما الرابعة فمحفزة للنشاط البدني.. لكن من فرط ما جرب (سعد) هذه التركيبات على نفسه، ضعفت صحته واعتلت عافيته.. وقبيل ما يشتغل خط انتاجها الجديد - والذي لم يكن بالطبع قد أصبح شرعياً أو قانونياً - قضى الرجل نحبه، ووُجد ميتاً في غرفة مكتبه بمعمل العطور.

في محل عملها بوزارة الثقافة، بُلغت (كريمة) ابنة (سعد) الكبرى بنبأ وفاة أبيها، فهرعت إلى البيت حيث وجدته ممدداً على فراشه بعدما نقلوه إلى هناك، وقد التفت - حوله في مشهد بئيس - زوجته وولديه القاصرين التوأم (محمود) و(علي).. هنالك، ارتمت المسكينة في أحضان أبيها، وهي تبكي فيه - والألم يعتصر قلبها المكلوم - الأبوة والحنان والصداقة، وكل معنى جميل.

خيمت الأحزان على البيت وقد اتشحت أركانه بالسواد.. وألقى أفراد الأسرة نظرات الوداع الأخيرة على جثمان الراحل وكلهم أسف على عمره الذي أضاعه في السعي وراء حلم مستحيل، ثم ترك - لهم - خلفه ديوناً وقلق. وهذا بالضبط ما أشرف بـ (كريمة) على الانهيار، لولا أنها عادت فأبدت تماسكاً صنعته - فقط - لأجلهم.. لقد أملت في وجه الله الكريم فرجاً كما عودها، فما عادت يوماً من بين يديه خالية الوفاض.

على هذا ذهبت الفتاة إلى أمها وهي جالسة وقد أعياها حزن الفقد والفراق، فضمت رأسها إلى صدرها وراحت تقبله، والدموع تنساب كعباب الموج تتراً على خدها المتقد حمرة، ثم طمأنتها بأنها ستسوي مسألة الديون، وستنظر في أمر المعمل حتى لو اضطروا إلى بيعه، كما وستسافر إلى أبناء عمومتها كي تطالبهم بما كان لأبيها - ولهم - من بعده من إرث مستحق، منعوه عنه لسنوات طوال.

ولأن (كريمة) بطبعها متفائلة، وتملك من قوة الإرادة ما يبث في قلبها سكينة وأمن، فقد قررت أن تعول أسرتها، وأن تغير حالهم وحالها إلى الأفضل، مهما تطلب ذلك منها جهد وتحمل.

في المنزل، مكثت (كريمة) ثلاثة أيام تتلقى العزاء في أبيها الذي شيعوه وألم الفراق يعتصر أفئدتهم عصراً، وفي هذه الأثناء كان خطيبها (سميح) إلى جوارها؛ شاب كريم العنصر، ظل يهدهدها ويشاركها أحزانها بكل رقة ورجولة كي يسهل عليها اجتياز هذه الفترة العصيبة من حياتها.

كان (سميح) شاب فارع الطول، مليح الطلعة، ويعمل مهندساً كهربائياً، ومنذ ما تخرج في الجامعة وهو يكافح بشمم ليتبوأ مكانة مرموقة في شركة ناهضة تعمل في مجال المصاعد الكهربائية.. وبرغم ظروف خطيبته العثرة إلا أنه رأى فيها الفتاة الطموحة ذات الخلق الرفيع.. فاختارها لتشاركه لحظات الحياة كلها بحلوها ومرها، وأقسم في نفسه أن يجعلها أميرة قلبه، وألا يدخر جهداً في اسعادها ما شهق وزفر أنفاس للحياة.

بعد أسبوع ذهبت (كريمة) إلى معمل العطور يحملها الاشتياق إلى روح أبيها الطاهرة، وفي ذات الحين كان القلق يخلع قلبها على مستقبل الماكثين في المنزل.. لكنها كانت تتجلد.. وفتحت باب المعمل بحذر فدخلت.. ثم تجولت في جنبات المكان وعيناها الجميلتان تتأملان قواريره ومواده، ثم استقرت خلف مكتبه تتأمل كتبه ومراجعه وأدواته الشخصية؛ كنظارته، وقلمه الحبر العتيق، وغليونه الفارغ، وما لبثت أن زرفت دمعات رقراقة، لاسيما وهي تتابع صورته مع أبيه فوق الحائط المواجه للمكتب، كان قد وضعها هناك منذ سنوات بعيدة، ليشعر أن أباه لم يزل معه ولم يغادر! وقفت أمام الصورة تهمس، ولم تزل الدموع تنساب على وجنتيها:

-         رحلت يا أغلى إنسان قبلما نفرح بثمرة سعيك في الحياة!

وبينما كانت تهم (كريمة) بالرحيل من المكان إذ بها تصطدم بكرسي عن غير عمد فانحنت لترفعه كي تعيده إلى سيرته الأولى، عندئذ لاحظت أن في قاعدته من باطنه صندوق سري، وعندما دقت عليه بيدها فتح فوقع منه دفتر غلافه بني باهت، وبه مدونات أبيها عن تراكيبه الخاصة السرية. أخذته.. ثم جلست تطالع فيه ما خطه أبوها بيده.. هنالك التمعت عيناها وفرغ فاهها إذ تذكرت كلام أبيها عن المستقبل الباهر والثروة الطائلة التي سيجنيها من وراء أبحاثه المميزة وعطوره الفريدة. أبرقت فكرة أن "ستكمل مسيرة الأب" في ذهنها، لاسيما بعد أن رنت في ذاكرتها هذه الجملة بالتحديد قبل أسبوع من وفاته: "أبشري يا (كريمة).. أبوك وصل.. فركة كعب والحلم يصير حقيقة.. أيام وأنتج أعظم عطور في العالم".. في نفسها، همست (كريمة):

-    لابد وأنه أنهى الأبحاث.. يعني كل شيء مرتب وموجود.. والمواد الخام متوفرة بالتأكيد إذاً الباقي سهل.. لابد أن أتمم الذى بدأه أبي حتى يسعد في قبره، وأحل مشاكل أسرتي، وأؤمن لأخايا مستقبل مستقر!

في يدها أخذت (كريمة) دفتر أبيها وعادت به إلى البيت، وفى غرفتها تربعت فوق سريرها وراحت تطالع فيه، وقد أعادت قراءة الملاحظات التي في الحواشي أكثر من مرة ثم نامت على عزم بأنها سوف تنتج هذه العطور حتى ولو وقفت الدنيا كلها في وجهها:

-         صحيح إن هذه العطور عجيبة وغريبة.. لكن هذا السر هو ما سوف يجعلها تنجح..

فى صبيحة اليوم التالي - وتحديداً فى المعمل - ارتدت (كريمة) معطف أبيها المهتريء وبدأت تجهز المواد والأدوات اللازمة لإنتاج عينات من العطور المزعومة . فتحت الدفتر وبدأت تخلط تباعاً أول تركيبة وما إن أضافت المادتين الأوليتين حتى على صوت هاتفها المحمول بجزء من مقطوعة بتهوفن معلناً عن اتصال هاتفي من زميلتها (رضوى) تسألها عن حالتها وموعد عودتها إلى العمل، فأجابتها (كريمة) أن تقدم لها طلباً بإجازة اعتيادية لمدة أسبوع.

عادت (كريمة) كي تكمل ما بدأته من خلط المواد المكونة للعطر الأول لكنها لم تلحظ بعد أن سرح خيالها في أمر تسويق هذه العطور أن الصفحة التي كانت تطالع فيها قد انقلبت بفعل هواء المروحة فإذ بها تكمل وضع المواد المتبقية من تركيبة العطر الثالث.. وهكذا أنهت ما بدأته وهي تظن أنها أنتجت العطر الأول فأحكمت غلق زجاجته وحفظته بفريزر الثلاجة.. ولما عاود هاتفها عزف مقطوعة بتهوفن كان المتصل أخوها (علي) الذى قال لها:

-  ماما تدعوك للحضور حالاً، لأن خالتك فوزية أتت مع ابنها وزوجته لكي يقدموا لنا واجب العزاء..

جالست (كريمة) ضيوفها الذين أتوها بقلب موجع وعيون دامعة فور ما بلغهم النبأ بعد رجوعهم من أداء فريضة الحج ليلة أمس. احتضنت الحاجة (فوزية) ابنة أختها - المفضلة لديها - وهي تغادر في حنان بالغ، وشدت على يديها بحرارة وهي تطمئنها أنها إلى جوارها متى احتاجت أسرتها إلى أي شيء.. ودعوها وصوت المقرئ يأتي من المذياع بقوله عز وجل (كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام).

بجانب النافذة انزوت (كريمة) في ذات المقعد الذي اعتاد والدها الحبيب أن يجلس فيه وهو يحتسي فنجان الشاي - كلما سنحت له الفرصة - في وقت العصاري، ثم كان يجذبه الخيال فيهيم فيما لا يفهمه المحيطون، ولا يهتمون به على الإطلاق.. فعاش وحيداً في أحلامه.. فريداً في أوهامه!

وما هي إلا دقائق معدودة حتى بدأ المطر يهطل وزخاته تضرب زجاج النافذة في مشهد طبيعي بديع.. وكأن الدنيا راحت تغسل (كريمة) من أحزانها.. يبدو أن الشتاء حل هذا العام قبل أوانه.. وهل استقر أي شيء في هذا الزمان على أوان؟!

في اليوم التالي جهزت (كريمة) نفسها لاستئناف ما ابتدأته بالأمس فأعدت نفس المعدات وجلبت نفس المواد.. لكنها فضلت أن ترى ما أنجزته يداها البارحة.. وفعلاً، أخرجت الزجاجة من الفريزر، وقبل أن تنزع عنها غطاءها تذكرت الملحوظة الأكثر أهمية والمدونة بخط عريض في دفتر أبيها "لا تنسي وضع القناع على الأنف قبل اختبار العطر، حتى لا يصيبك مكروه".

لم تدر (كريمة) ما ألفته من تركيبة لعطر جديد ذي خواص جديدة، وامسكت الزجاجة جيداً كي تتفحصها عندما طرق (سميح) باب المعمل مرتين، فنهضت لتفتح الباب، وما إن دخل الشاب حتى أوصدته وراءها وهي تسأله في شغف ممزوج باضطراب خفي:

-      ماذا أتى بك يا سميح؟

-      قلقت عليك!

-     لا تقلق.. فقط أجرد ما بالمعمل من أشياء وأدوات..

-     هل ستبيعونه؟

-      لم نحسم الأمر بعد.. تشرب شاي؟

-      عندك نسكافيه؟

-     نعم.. لحظة واحدة..

نسيت (كريمة) أن تعيد الزجاجة إلى الثلاجة أو تخفيها في مكان ما، وبينما كانت تعد لخطيبها المشروب الساخن إذ بها تعود فتجده هادئ على غير عادته.. بل بدا هادئ جداً؛ كالمسلوبة منه ارادته.. أمر عجيب.. لكنها وعت الكارثة التي وقعت عندما نظر إليها وهو يرسم بالكاد ابتسامة مجهدة، ويشير إلى زجاجة العطر.. فأسرعت نحوها وأمسكت بها وهي تسأله في ارتياب:

-      ماذا فعلت؟

-      أنا.. آه.. رششت عطراً.. جميل.. آه..

-      قف..

-      حاضر..

-       تعالى..

-     حاضر..

لقد لفت نظرها أنه يستجيب لأوامرها بغير نقاش.. فأسرعت إلى الدفتر لتراجع مكونات التركيبة وحينها اكتشفت - طبعا بعد التدقيق والتمحيص - أنها جمعت بين التركيبتين الأولى والثالثة فكانت النتيجة خلطة عطر جديد جداً! تنبهت (كريمة) إلى أنها لابد وأن تختبر (سميح)، وترقبه عن كثب، فبادرت توجهه:

-         تعالى يا سميح.. قم.. اجلس.. اذهب بسرعة نحو الباب.. عد إلى هنا ببطيء.. ارفع الكرسي بكلتا يديك ثم ألقيه على الأرض.. الطم وجهك..

وفي كل مرة كان (سميح) يستجيب لأمرها بدقة بالغة ومدهشة، وبدون أن ينطق ببنت شفة، فتأكد حدسها أن للعطر الهجين تأثير على الشخص، إذ يسلبه ارادته تماماً، فقفزت من فرط دهشتها وهو لا يعيرها أي انتباه فيما أخذت تردد في جنون:

-  وجدتها.. وجدتها.. تركيبة التنويم المغناطيسي.. والله لأفعلن بها الأفاعيل، ولأعيدن بها حقوقنا السليبة.. ولسوف أسترد بها حقي ممن ظلموني.. لقد هبطت علي من السماء.. الحمد لله!

ثم صاحت (كريمة) بعد أن أخفت الزجاجة مرة أخرى بالفريزر في وجه (سميح):

-     اذهب واغسل وجهك..

وما إن عاد حتى قدمت إليه النسكافيه لكي يستفيق من غفوته ويستعيد تركيزه.. لكن كان لابد من أن يستنشق هواء منعشاً لدقيقتين أو ثلاثة.. وبالفعل عاد الشاب إلى حالته الأولى غير ذاكر لأي مما حدث، وكأنه غفى - حقاً - لوهلة بينما كانت تعد له شرابه المفضل.

لأسباب لم تزل غير واضحة، أخفت (كريمة) الأمر برمته عن (سميح) وأي أحد.. واكتفت بنفسها أمينة على سرها الجديد، لكن بداخلها أخذت النشوة تعتمل في ذرات روحها فتبعثرها ثم تعود فتجمعها، وهي بين الثورة والتطلع تكاد تتفتت وتتلاشى!

بعدما استجد من حدث، وضعت (كريمة) خارطة طريق واضحة المعالم لتصل بها إلى ما أقرته نفسها فور امتلاكها هذا السلاح الخطير.. وحددت أهدافها المستقبلية - حتى حينه - في خمسة أهداف ذات أولوية.. أولها: أن تسترد حقهم المسلوب من إرث أبيها لدى أبناء عمهم الكبير (سعيد).. ثانيها: أن تنتقم من رئيس قسم الفلسفة بالكلية الآداب؛ دكتور(فتحي) الذى وقف بتعسف في وجه تعيينها معيدة بالقسم كي تبقى الدرجة المالية خالية للعام التالي، وبذا يضمنها لابنته دون سواها.. ثالثها: أن تؤدب الأستاذ (إلهامي)؛ مدرسها المتصابي المتحرش بالفتيات في المرحلة الثانوية، خاصة وأنه كان في كل مرة يروغ كالثعلب من الاتهام الموجه إليه.. رابعها: أن تنتقم من خطيبها السابق (حمدي) والذي ارتبط بها لأجل الوصول إلى الذهب الذي أشيع أن والدها يحضره في معمله.. وما أن تأكد لدية كذب الرواية حتى فر هارباً ووراءه قلب كسير لفتاة حالمة.. خامسها: أن تؤدب ثلاثة من قريناتها المشاكسات المتعاليات اللائي دأبن التهكم عليها وعلى عمل أبيها وأبحاثه، ولم تنس مقالبهن السخيفة اللاتي فعلنها بها في الصف الثالث الثانوي.

فوق كل هذا الغضب كانت ترقد (كريمة) بقلبها المسكين، لذا لم يكن من السهل عليها أن تسامح كل هؤلاء جملة واحدة قبل أن تنفث فيهم غضبها الكاسح، وإلا تفجر فيها فكانت هي الخاسرة أبداً.. هكذا توهمت المسكينة أن بالانتقام ستطيب نفسها، ويرتاح على أثره بالها!

رتبت (كريمة) أمورها وحزمت حقيبتها واصطحبت أخاها (محمود) قاصدين القرية حيث يعيش أبناء عمومتهم، ولم تنس - طبعاً - أن تأخذ معها زجاجة العطر الجديد والقناع الواقي.. ومع ذلك ذكرت نفسها طوال الطريق أن تتحلى بالمكر حتى تصل إلى بغيتها وتكتمل خطتها على خير.

في المساء.. وبعدما نام أهل البيت كلهم، استدرجت (كريمة) الابن الأكبر لعمها الراحل ويُدعى (حسان) في ظلام الليل بحيلة ما إلى الفرندة، وبينما كانت ترتدي القناع الواقي عاجلته برشة جريئة من العطر السري.. ثم مرت ثوانٍ، فأصبح بعدها قطعة من العجين طيعة فى يديها راحت تشكلها حيث أرادت!

العقود التي تثبت ملكيتهم لأرثهم في الأرض كانت قد جهزتها عند الأستاذ (فهيم) - محام صديق لأبيها - وتحت اللاوعي وقع (حسان) على الأوراق كاملة، لكنها لم تكن لتكتفي بذلك، إذ طمعت أكثر في تسجيلها بالشهر العقاري.. يا لجرأتها! يا لصعوبة إتمام هذا الجموح!.. بيد أنها كعادتها كانت ترتب لمبتغاها بحرفية شديدة، ولذكائها وألمعيتها الذين وهبهما إياها الله الكريم نصيب في نجاحها!

لقد تحايلت (كريمة) على هذه العقبة بأن استأذنت (حسان) في كلمتين على انفراد، فظن المسكين أنها تحتاج إلى اعانة مالية، بدأت تتكلم ثم دارت حوله في نصف دائرة حتى أصبحت في قفاه، وكما فعلت بالأمس أخرجت الزجاجة والقناع في حركة خاطفة ثم رشت صوبه رذاذ العطر فاستسلم تماماً.. هنالك قالت له:

-    هيا معنا لننزل إلى المركز..

-    حاضر..

-  إذا سألك أحد عن وجهتنا فأبلغه أنك ستأتي معنا دون سواك إلى أحد الأطباء من أجل أخي (محمود)..

حملت (كريمة) حقيبتها التي صارت لا تفارقها في الآونة الأخيرة كأنها جزء من جسدها يكمل ما سرقته منها الحياة.. ثم استقرت قدماها أمام منزل الأستاذ (إلهامي) مدرس الفلسفة في مدرستها الثانوية والذي عرفته الفتيات كأكبر متحرش في تاريخ المدرسة والمنطقة التعليمية بأسرها.. لطالما غمزته ولمزته البنات وزميلاته المدرسات وغير المدرسات، وما هو إلا كائن رزيل، بل لوح ثلج لا يعبأ قط لسمعته ولا هيبته، المهم عنده أن يروي فقط غرائزه العطشى - باستمرار - بالتحديق الفج والتقرب السافر بلا أدنى مبرر من أي جسد أنثوي - حتى ولو كان قطة عرجاء - يعبر الطريق!

خلف شجرة عجفاء، اختبأت (كريمة) حتى نزل الرجل في صباح يوم غائم شديد البرودة، وبينما كان يعد سيارته للانطلاق، إذ بها تتجه نحوه في خطى رشيقة واثقة، ثم ألقت عليه التحية فردها متهللاً.. وهو يأمل في نفسه صباح كغير أي صباح.. فالفتاة ممشوقة الجسد نحيلة الخصر حسناء.. سارعت فذكرته بنفسها فتذكرها، إذ ليس يلوي على شيء في الدنيا إلا هن.. لاسيما الساذجات.. وهذا ما فعلته بالضبط إذ أفهمته أنها بحاجة إلى أن تجري بحثاً ميدانياً عن نظرة المجتمع إلى عمل المرأة في البلاد المحافظة، وأنها تريد أن تدعمه بالنظرة الفلسفية العميقة.. ولن تجد خير منه معين.. ولأنه سهل الاصطياد، فقد ابتلع الطعم وسريعاً عرض عليها التوصيلة إلى المدرسة ثم إذا ما انتهى من طابور الصباح يمكن أن تجري معه ما شاءت من حوارات في غرفة مكتبه.. وأقسم لها بأنه سيطلعها على كل جديد في هذا الصدد.. سايرته طبعاً ثم قبيل أمتار من بوابة المدرسة أخرجت القناع وهي تردد:

-   جلبه أخي إلى البيت فاستعرته منه.. وجهي جميل فيه؟

-    بل هو الذي ازداد جمالاً بك.. فكل ما فيك جميل..

وبينما كان لعابه يسيل إذ بها تخرج زجاجة العطر وهي تهمس متهكمة:

-   وهذا العطر لحضرتك..

ولأن عقله كان غائباً عن الواقع وهائماً في ملذاته المريضة، فقد تناوله منها وأطلق بيمينه رشات تجاه أنفه فتم ما رنت إليه، ثم وضعت في أذنه اليمنى سماعة (وايرلس)، وبدأت (كريمة) تملي عليه أوامرها كالتالي:  

-     ترجل من السيارة ثم توجه إلى الطابور المدرسي..

-      قل ورائي..

-   أنا رجل غير مؤدب.. أستغل وظيفتي في التحرش بتلميذاتي منذ أكثر من عشر سنوات.. إنني مريض بالتحديق والتفكير في النساء على اختلاف أشكالهن وأعمارهن.. أنا لا أستحق وظيفة شريفة كتلك.. إنها للشرفاء وهم كثيرون حولي.. لكنني ضعيف.. رزيل.. حقير.. لم أفكر يوماً في ضحيتي وفي نظرتها إلي.. ولا في مشاعرها ولا في آلامها.. لم أفكر ألا في أن أشبع رغبات نفسي المريضة.. واليوم أعتذر لهن كلهن ولكل اللواتي آلمتهن وضايقتهن.. وأتقدم أمام الجميع باستقالتي آسفاً على ما بدر مني..

ردد (إلهامي) هذه الكلمات وراء (كريمة) من خلال السماعة وهي تتابعه آسفة من خلف السياج الحديدي لشباك أحد الفصول، فيما انفعل الحضور فكأنما دقوا في الأرض كأوتاد عارية، فقد ألجمت المفاجأة الثقيلة أفواههم فلا تسمع لأحدهم همساً، ولا ترى منه لفتة!  

حان وقت الانتقام الثالث.. أعدت (كريمة) عدتها في فضح خطيبها السابق أمام صهره الجديد.. لكنها هذه المرة استعانت بأخويها التوأم في استدراج (حمدي) إلى مدخل منزلهم وهي ستتكفل بالباقي.. شرحت لهما الخطة لكنها أخفت عنهما أمر العطر وأفهمتهما أنها تريده لتوبخه على موضوع قديم عالق.. تجملت فبدت في هيئتها أميرة حسناء في ليلة مقمرة، ولما دخل وجدها على هذه الهيئة، فاهتاج لجمالها، وأنبأت بهذا عيناه اللتان جحظتا بشكل عجيب.. ولكن قبل أن يتحرك لسانه كانت قد تحركت يداها؛ فباليمنى ارتدت القناع، وباليسرى رشت العطر قبالة أنفه.. ثم علقت السماعة في أذنه اليمنى.. وأمرته بالتحرك صوب محل أقمشة حماه الحاج (سيد).. ثم أخذ يردد وراءها وهو يصرخ في وجه الرجل:

- أوَ تظن يا معلم (سيد) أنني خطبت ابنتك لحبي لها أو لرغبتي في الزواج منها؟ لا يا رجل.. لا يمكن أن يرضى بها خروف حتى وأنت تعلم ذلك.. إن ما عندك من أموال هو ما شجعني على التقدم لها بعدما تركت بنت الحاج سعد العطار.. وإن لم أتمرغ في النعيم وتحقق لي ما أصبو إليه فلن ترى وجهي..

عندئذ لم يتمالك (الحاج سيد) أعصابه وصاح في وجه (حمدي) قائلاً:

-   أغرب عن وجهي أيها التافه.. ولو رأيتك هنا أو عندنا في البيت لأمزقنك.. صحيح عاطل وحمار!

بعد يومين من هذه الواقعة، تسللت (كريمة) في حذر مشبوب بالتحدي إلى مكتب رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب.. فتفاجئ بها الدكتور (فتحي) قائمة قبالته تحدق فيه بينما كان يطالع في بعض الأوراق وهو خلف مكتبه وقد تدلت نظارة القراءة على منخاره فبدا وهو يرمقها من وراء النظارة كتاجر يوناني قديم.. ثم دار بينهما الحوار التالي والذي ابتدره سائلاً:

-    ماذا تريدين؟

-   اعتراف..

-    ماذا؟ اعتراف؟

-    نعم..

-    ماذا تقولين؟!

-   فقط اعتراف منك بأنك ظلمتني حين رفضت تعييني في وظيفة معيدة بالقسم.. وقلت لستم محتاجين هذا العام.. وذلك لكي تحفظ لابنتك الفرصة..

-  مخبولة.. أنتِ بالتأكيد مخبولة.. أخرجي وإلا طلبت لك الأمن..

-  سأخرج.. لكن الاعتراف سيريحني.. أنا لم أعد أريد العمل في محرابكم هذا الذي لا تقدرون فيه المجتهدين.. يا دكتور.. فتحي..

أعطته (كريمة) ظهرها وتقدمت نحو الباب ببطيء فظنها تغادر لكنها فعلت كمثل المرات السابقات؛ إذ أخرجت أدوات الشغل من حقيبتها اللصيقة، فارتدت القناع وعادت نحوه بسرعة البرق وفي يدها زجاجة العطر ترش عليه ما شاء الله منه أن يكون.. ارتسمت علامات الذعر على وجه الرجل، لكن هيهات أن يملك وقتاً ليستغيث بأحد، على أية حال لقد ذاب في اللاوعي كمن سبقوه.

بعدما أرفقت (كريمة) السماعة بأذن الدكتور تعجل - حسب أوامرها -عقد مجلس القسم قبل موعده بنصف ساعة، وفيه تلى اعترافاً مهما، جاء فيه:

-  قبل أن نبدأ في مناقشة ما استجد من اعمال أحب أن أعترف أمامكم بجرم اقترفته في حق ابنتنا (كريمة سعد).. وكلكم يعرفها جيداً.. فكم كانت طالبة متفوقة ومتميزة.. لكنني وقفت في وجهها.. طبعا ليس بدافع الكراهية.. أو اعتراضاً على شخصها وعلمها.. لكنني ضيعت عليها فرصة التعيين لكي تحصل عليها ابنتي (ريهام) في العام التالي.. واليوم أعترف أمامكم بظلمي لـ (كريمة) واستغلال منصبي.. لذا أتقدم باستقالتي من رئاسة مجلس قسم الفلسفة.. وليسامحني الله ولتسامحني الفتاة..

ضرب السادة الأساتذة أكفهم ببعضها البعض من سوء ما سمعوه من الرجل.. بل لقد بلغ استياء بعضهم منه أن طالبوا بإحالته إلى مجلس تأديبي.. ولسوء حظه أن ما قاله سجل في مضبطة اجتماع المجلس وشهد عليه الجميع، فدمر بيديه أو بالأدق بكلتا يدي (كريمة) مستقبله المهني، وأصبح عار على نفسه وابنته!

مجهدة وحزينة عادت (كريمة) إلى منزلها.. لقد تغيرت في الأيام القليلة الفائتة فصارت لا تفعل غير الانتقام ولا ترتاح إلا في خراب أعداءها.. وكانت قبل ذلك الفتاة المثالية الحنونة.. هل تسبب موت أبيها المفاجئ في هذه الهزة النفسية لها؟ أم الفقر الذي ورثته عنه؟ أم تجمع الظلم عليها من كل ناحية؟ وهل بدأت تسترد يقظتها من غفوة الكراهية والغضب اللذين اعتملا بروحها على مدار شهرين مضيا؟

على كل حال لم تلتفت (كريمة) للوم نفسها كثيراً، إذ لم يعد على لائحة ما خططت له إلا الانتقام من زميلاتها الثلاث؛ (رشا) و(ندا) (منى)، فجعلتهن حسن الختام. وأسفل اللحاف الشتوي الثقيل تمددت الفتاة وفي يدها قلم ودفتر تسجل فيه مذكراتها اليومية أول بأول.. لم يكن هذا الفعل بجديد عليها فقد دأبته منذ ما وطئت قدماها الحرم الجامعي قبل سبعة أعوام.. وما أن انتهت حتى دست الدفتر بحقيبتها ثم أطفأت الإضاءة وأسلمت روحها لنوم عميق.   

في عشية الغد، هاتفت (كريمة) أبن عمها (حسان) وحدثته عن بيع نصيبهم من الأرض فما كان إلا أن ضحك ملئ شدقيه، ثم إذا ما انتهت ألقت في مسامعه المفاجأة التي أطاشت بعقله فهاج وماج وقال محذراً:

-    سوف أقاضيك.. أوراقك مزورة وسأودعك السجن حتى تتعفني فيه.. يا شاطرة!

بكل برود ممزوج بثقة صاحب الحق قالت (كريمة):

-    العقد موثق في الشهر العقاري.. وعليه توقيع ولا مناص من حصولنا على حقنا يا ابن عمي!

أغلقت (كريمة) الخط وتركت (حسان) في حيص بيص، لكن حين أختلى بزوجته عند النوم راجعته بأن أولاد عمه صاروا فقراء.. وهذا حقهم.. وأنه إذا ما سلبهم إياه فلسوفا يأتي ظلمه إياهم بالخراب على صحته وأولاده، فأرتعب (حسان) وكأنه لم يسمع كلمات كهذه من قبل، فاستغفر الله وتاب وأناب.. وفى الصباح الباكر استقل سيارته.. وشد إلى أبناء عمه زيارة معتبرة وأصطحب معه أم العيال فتصالح معهم.. لكنه سأل (كريمة) مندهشاً:

-  لكن قولي لى كيف حصلتي على هذا العقد أنا لم..

-   أنت وقعت عليه يوم كنا عندكم وسجلناه سوياً في الشهر العقاري الموجود بالمركز..

-   كيف؟

-   تعلمت لأجلك فن التنويم المغناطيسي.. وسقتك لأجل حقنا..

-    تنويم مغناطيسي؟!

-    نعم..

-     يااااه.. علم عجيب!

- جداً..

تواعدت (كريمة) و(سميح) على اللقاء في معمل العطور حيث فكرت في الأخذ برأيه في مسألة تطوير المعمل ليصبح مصنعاً - ولو أن يكون صغيراً - للعطور:

-   من الوجهة الفنية أم العاطفية؟

ضاحكة ردت الفتاة:

-    من الوجهتين.. فالفنية أنت مهندس عظيم..

-   عظيم!

-    والوجهة العاطفية باعتبار ما سيكون..

-     أي نعم..

-     قم لف لفتين في المكان وانظر هل يصلح؟

-    بدون لف ودوران.. أنا أعرف كل شبر فيه.. ويصلح إذا رممناه وجعلنا الإنتاج فيه ألياً..

-   أليا؟

-   نعم..

-   كيف..

-   أي تتم كل مرحلة في الانتاج بفعل أجهزة ومعدات لا تحتاج إلى تدخل البشر..

-     آه!

-    حقاً.. فمرحلة الخلط لها خلاطات ألية.. ومرحلة التعبئة.. وكذلك التغليف.. وأيضاً الطباعة..

-    وهل هذا ممكن؟

-  إن هذا موجود بالفعل لكنه مكلف..

-   بكم؟

-    بمال كثير.. لكن العبد لله يمكنه أن يجهزه ويصنعه لك..

-    معقولة؟

-   طبعاً..

-    تستحق كوب نيسكافيه..

قامت (كريمة) وتوجهت إلى البوفيه لتعد لـ (سميح) الشراب الساخن، وقد نسيت أنها تركت مذكراتها على مكتب أبيها مفتوحة.. وكان صاحبنا قد نهض ثم تجول في المكان وعندما نظر إلى الصورة المعلقة أمام المكتب أعجبته وتراجع قليلاً إلى الوراء ليشاهدها من زاوية أوسع إذ جالت بمخيلة معانى عديدة حول الحب والوفاء والتضحية والأمل، ثم اقتعد كرسي الأب خلف مكتبه، وعندما لاحظ دفترها تلقفته يداه باشتياق، وظن أنها خواطر أدبية وأزجال، فراح يقرأ فيه، لكن ما طالعه في الصفحتين الآخرتين حتى صدمته الكلمات أيما صدمة.. ولما عادت (كريمة) بالشراب وجدته في جلسته تلك وعيناه تبرقان وقد تجمدتا على غضب وحزن.. لم تنبث شفتاه بحرف، فبادرت هي تقول إذ فهمت ما حدث:

-    نعم.. هو ما قرأت..

-    ألهذا الحد أنت قاسية؟!

تهدرت الدموع الدافئة على وجنتيها وهي تحاول دفعها بكبرياء المظلوم الذي أشهر سيفه في أرض المعركة:

-  نعم وأكثر.. لقد ظلموني وظلموا أهلي.. أنت لم تجربهم.. أنت لم تذق ما ذقناه من مرارة الظلم، وضياع الأمل!

-   من قال لك بأني لم أُظلم.. أم لأني لا أحكي عن معاناتي كي لا أنغص عليك حياتك؟

-   لابد أن معاناتك أقل وطأة.. فهل ظلمك من هم مثل هؤلاء؟

-   وأكثر مما تتصورين.. حتى أن خيالك الأدبي والفلسفي لن يصل إلى ما لقيته من معاناة!

اقتربت الفتاة حانية وقد هزها الشغف في معرفة معاناته، لاسيما وأن نظراته ونبراته وخلجاته وهو يتكلم، أنبأتها بأن هناك بركان خامد عليه يرقد (سميح) لكنه رسم على وجهه علامات الرضا والحبور كعادته!

اكتفى (سميح) بما قاله، إذ منعه الوجد الذي أعتمل بصدره أن يكمل حرفاً أخر.. جذب حقيبته وعلقها في كتفه، ثم انطلق كأسد جريح.. لكن هيهات من أن تثنيه توسلات (كريمة) عن الرحيل على هذه الحالة المؤسفة.

وفي المساء دق هاتفه وهو منكفئ على نفسه في كرسي هزاز جوار باب الشرفة معلناً عن وصول رسالة نصية قصيرة.. فتحها فكانت من خطيبته الحبيبة جاء فيها: "آسفة عما بدر مني.. فأنت أعلم بالغضب عندما يجتاح الإنسان الطيب.. ألم يقولوا (اتقى شر الحليم إذا غضب).. على فكرة لقد أقنعني حديثك حتى أني تراجعت عن المضي قدماً في طريق الانتقام".. ثم وراء هذه الرسالة بدقيقتين جاءته أخرى كان نصها كما يلى: "قابلني غداً في المعمل عند الحادية عشر صباحاً، حتى لو اضطررت لأخذ إجازة من العمل.. أرجوك.. للأهمية يا هندسة".. أما الرسالة الثالثة فكانت عبارة عن قلوب كيوبيد ذات السهم الراشق.

على مرأى ومسمع من (سميح) مزقت (كريمة) دفتر أبيها وأنهت حقبة أسراره تلك التي كانت يمكن أن تحيل حياتها وحيات الأخرين إلى كابوس مؤلم.. ثم هو - أي الدفتر- لو وقع في أيدي العابثين أو المجرمين أعداء الإنسانية لحلت بالآمنين كوارث لا قبل بها.. فتهللت أسارير الشاب كمن استرد أملاً في الحياة بعدما واجه الموت الوشيك.. وقال منشرحاً:

-  أفضل ما فعلتِ.. أحبكِ من كل قلبي.. يا زوجة عمري الجميل..

-   حسبك.. لم أزل خطيبتك..

-   إن شاء الله تعالى لن تتفتح زهور الربيع إلا وأنتِ زوجتي.. يا كراميلة.. يا جميلة..

-  جميل قوي.. نترك المشاغل التي وراءنا ونجلس لنتبادل كلام الحب..

-  ولما لا؟

- هيا يا بشمهندس لكي تراني في بيتك لابد أن نسارع الزمن لنطور هذا المكان.. وتصمم لنا خط الانتاج كما ادعيت..

-         أتخذتم قراركم إذاً؟

-         فعلاً.. وافقت أمي وأخوايّ على الفكرة.. بل وباركوا إياها..

-         عطور كريمة.. هكذا سوف نطلق عليه..

-         على بركة الله تعالى..

افتتحت (كريمة) وأسرتها و(سميح) مصنع (كريمة وشركاءها للعطور) تزامناً مع أعياد الربيع، فكانت رائحة الأيام جميلة.. وتزوجا الحبيبان في منتصف الربيع حيث زهت الألوان، وزكت الروائح، فطابت الأنفس، وانشرحت الصدور.

مر عامان على افتتاح المصنع، ذاع بعدهما صيت العطور التي ينتجها، حتى أن سار لهم براند شهير يحمل اسم (روائح كريمة).. فراجت البضاعة، وتحسنت الحال، وسُددت الديون.. وهكذا قطفت (كريمة) و(سميح) وشركاءهم ثمرة الحب والكفاح، برفقة التسامح والسلام.

(الإسكندرية في 18-9-2017م)

 

  

تعليقات