هو؛ رجل رتيب العادة.. جاوز الخمسين بقليل.. ساكن كالجبل.. لا تحركه أعتى رياح.. إذا أخذت منه الدنيا فلا شيء – حسب اعتقاده – أكثر من كومة أتربة وغبار.. تزوج مرات أربع.. كان يلهث وراء الإنجاب برغم أنه كان يعلم جيداً أنه "عقيم".. لم يقدر له المولى أن يكون أباً في هذه الدنيا.. لكنه من الصنف الذى لا يأبه إلا بمبتغاه.. وكمْ كانت الإبوة مبتغاً سيطر عليه لربع قرن من الزمان ولازال يفعل!
عاد من عمله.. تناول غذائه.. صلى العصر.. ثم قصد الفراش لأخذ قيلولته المعتادة.. غط في نوم عميق كالذي لم يجرب لذة النوم من قبل.. استيقظ.. حث نفسه على النهوض من الفراش.. فرك عينيه.. غادر غرفته فلم يجد أمه وأخاه.. اندهش لماذا خرجا دون أن يخبراه.. الغريب أن أمه سيدة عجوز بالكاد تحرك قدميها داخل طرقات الشقة..
-
ماذا حدث إذن؟!
-
لعل أخاك (محمود) اصطحبها إلى نزهة.. أو إلى
الطبيب..
-
لا.. لا.. لكانا أخبراني!
-
لقد كنت نائماً..
-
ولو.. لقد تركا التليفزيون يعمل!
-
ربما نسياه..
هز الرجل رأسه أمام
نفسه لكنه كان يدافع شعوراً عظيماً بأن هناك شيئاً على غير طبيعة الأيام.. فلم
يسمع أصوات وصيحات كانت تفرض نفسها على أذنيه كل يوم وليلة.. فأين – مثلاً – صوت
كوكب الشرق الآتي من مذياع المقهى أمامهم.. وأين صياح الجزار وصبيانه أسفل البيت
الذي يقطنه.. أين الضجيج الذي يصنعه الصبية اللاهون في عرض الشارع.. أين وأين؟
أسرع إلى الشرفة، ونظر
على الشارع فلم يجد مخلوقاً يسير.. أو حتى يقعد.. وزع نظراته السريعة اللاهثة على
شرفات وغرف البيوت المتاخمة والمقابلة فلم يرَ لأحد من كان ولو ظل.. أحس بدوار..
تساءل ماذا تراه يحدث.. وأين ذهب الناس.. ولماذا هو الوحيد هنا.. أو ربما هناك..
تسأل أكثر.. هل وقع زلزال وغادر الناس الحي.. تبادلت خلايا مخه عشرات الأسئلة دون
إجابة واحدة تشفى له صدره.. فقد عقله الإتزان فسقط على أرض الشرفة.. لكنه لم يفقد
وعيه كلية ً.. حاول النهوض.. استند إلى قائم الباب.. وكان عبثاً أن يقف فذاب ما تبقى
من وعيه وانهار!
وقف (محمود) إلى جوار الفراش ممسكاً بيد أخيه
الكبير وهو يمسحها بعطف بادٍ:
- مسكين.. داء السكري أنهك قواه..
نظرت الأم إلى وليدها بتأثر وألم بينما كانت الدموع تجرى
فوق خديها وهى لا تفتأ تردد:
- اللهم إني لا أسألك رد القضاء.. ولكني أسألك اللطف فيه!
سأل الطبيب وهو يفحصه بتمعن:
- منذ متى وهو على حالته تلك؟
أجاب (محمود):
- من عاداته أن يأخذ قيلولة بعد الغداء.. ومن وقتها لم
يستيقظ..
قال الطبيب قاطباً وهو يقيس نبض الرجل:
- أي منذ نحو عشر ساعات..
ساد الصمت لحيظات، قطعها صوت الطبيب وهو يحقنه:
- اطمئنا.. حالته الأن مستقرة.. سوف يفيق خلال الساعات
الثلاثة القادمة.. لتبقي أنت إلى جواره..
انفرجت أسارير الأم شيئاً، لكنها
لم تعلق وظلت تكرر الدعاء..
من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية
(الإسكندرية فبراير 2007م)