"النساء العصريات يفهمن كل شيىء ما عدا أزواجهن".. (أوسكار وايلد)
**********
دائماً ما كانت أمى تردد:
- الست الشاطرة هي التى تجعل زوجها يحب قضاء كل وقته في
بيته.. معها.. وبين عياله..
وكان لأبى رأي مكمل لرأي أمي.. قال لى ذات يوم، وكنت
مقدم على الزواج، بعد عودتي من (السعودية):
-
الزوجة الناجحة هي التي تدفع بزوجها إلى الأمام، وتقف
إلى جواره تحفزه وتعلمه..
سألته مندهشاً:
-
تعلمه؟ كيف؟!
أجاب مقرراً :
-
إن الرجل يريد من يعلمه الإنضباط، والمحافظة على المال
والعيال.. إنه دائماً بحاجه لمن يعلمه ذلك..
عاودت أسأله :
-
وإن كان الرجل يتمتع بالانضباط والمحافظة؟
مبتسماً أجابني، وهو يربت على كتفي:
-
حالذاك سوف يحتاج لمن يصحح أوراقه ويمنحه درجة..
كنت
أتصور الأمر سهلاً.. زواج أي: رجل وست.. ذكر وأنثى.. حب وعشرة، ولكنى سألت نفسى
ذات حين:
-
بأى الطرق سوف تتزوج، وأنت لا تحب، وليس لك علاقة بواحدة
من بنات حواء؟
حينها تذكرت قصة الحب
التى جمعتنى بزميلة لي في أول سنواتي بالجامعة.. كانت ثرية، من وسط اجتماعي مرموق..
والدها يُدّرس بالجامعة.. أمها طبيبة أسنان.. سيارة تصحبها للمجيىء، وأخرى تصحبها
للعودة!
الحق أقول.. لقد كانت
رقيقة.. جميلة.. هادئة.. أخذتني منذ الوهلة الأولى إلى دنيا الأحلام.. ظلت تجذبني
إليها قوى مجهولة لا أدري مكمنها.. تركت نفسي على سليقتها.. شردت.. تهت بين عينيها
النائيتين.. أهملت دروسي.. بادلتني النظر.. صارحتها بحبي.. خذلتني.. تواريت.. زدت
اهمالاً لدروسي.. انتبهت لي ذات حين.. كلمتني.. كلمتها متعالياً.. (علاما؟ لا أدري!)..
شعرت هي بامتهان.. وشعرت أنا بإنتصار، فمع كوني أحبها إلا أنني
أكره أشد ما أكره المساس بكرامتي.. جمع بيننا قدر عجيب.. تصافينا.. تكلمنا..
تصارحنا.. بقينا نجلس معظم الوقت سوياً.. نتحاب.. نتحاور.. وهكذا هو صنيع الأحباء.
ولأنه لم تكن لنا ميول
متفقات، ولم تتآزر جهودنا من أجل احياء هذا الحب الوليد، فقد فشلت قصة الحب، وتأكد
أن الحب وحده ليس كافياً.. مات الحب سريعاً، مثلما وُلد سريعاً.. حفظت عن خالى رحمه
الله ما كان يقوله لى كلما رآني:
-
معك قرش، تساوي.. ليس معك، لا تساوي شيئاً في دنيا الناس..
يا إبن أخي لقد أصبح العالم مادي والكل يجري وراء الفلوس وكأنها سر الحياة.. بل
كأنها سر الخلود!
لم أكن مادياً نهماً ذات
يوم.. كنت بطبعى رومانسياً.. حالماً.. غير أنى أميل إلى الواقعية في طلباتي.. لم
أتمنُ فقط غير عالم يقدر البشر لا على أساس آخر غير الإنسانية.. لكن لا بد مما ليس
منه بُد.. تخرجت في كلية التجارة.. ساعدني والدي في (شراء) عقد عمل (بالسعودية)..
باعت والدتي ذهباتها من أجله.. كنت وحيدهما على إبنتين تكبراني.. تزوجتا وأنجبتا
أطفالاً وصرت خالاً.
سافرت..
للغربة قسوة غريبة.. وحدة فتاكة.. صدق زوج أختي
الكبيرة.. الباشمهندس (عادل) حين قال:
-
الإنسان بطبعه مخلوق إجتماعي، فإن نزعت عنه هذه الصفة
صار كجمل أجرب، كل غايته أن يُطعم وينام حتى تواتيه فرصة جيدة للموت!
كانت الغربة في عيني كأنها
عقاب أنزله الله بي على ما اقترفته من ذنوب في دنيتي.. "وأيه يعنى الفلوس..
ملعونة الدوافع التى تجعل من الإنسان جمل أجرب!".. لا.. لم يصدق (ميكافييللى)
حينما قال أن الغاية تبرر الوسيلة.. ما هذه الاباحية.. تباً له.. إن الغاية تنزه
الوسيلة.. هكذا يمكن القول.
قال أبي دائماً عني:
-
أنت مجنون.. سوف تعيش هكذا.. وتموت هكذا.. الدنيا من
حولك لا ترحم.. وأنت غارق من الأوهام..
كنت أرد عليه قائلاً:
-
لا ضير يا أبتي.. ما دمت أُرضي الله ونفسي فلا يهمني
الناس.. أنا لا أحُاسب أحداً.. فمن ذا يحاسبني؟
مرت من السنوات خمس.. ثقال.. غرباء.. عمل.. ثم عمل.. فنوم..
فعمل.. وحينما عُدت إلى مصر شعرت وكأن حكم كان قد صدر ضدي وأنفذه، حكم بالغربة..
أحياناً بالإمتهان.. كثيراً ما يقولون:
-
من على الشط شاطر.. وغيرهم قالوا من يداه فى الماء ليس
كمن يداه في النار.. طبعاً.. هناك فرق واضح.. المهم التجربة..
عُدت..
ولأن قطار الحياة لا
ينتظر من يركبه.. فقد عقدت العزم لأن أكون من راكبيه.. وكلت أمي وأختاي بالبحث معي عن عروس.. بنت حلال كما قالت
أمي.. ناجحة، وذكية كما قال أبي.. رقيقة وجميلة كما كانت (مروة) أول حب..
علم أحد أصدقائي ببحثي الدؤوب عن زوجة المستقبل.. أرشدني إلى واحدة.. واختلق مناسبة،
ودعانى إلى بيته.. هناك رأيتها.. أُعجبت بها.. بذوقها.. بطلاقتها.. برقتها.. بمسحة
البراءة التي كانت تغلف ملامحها.. تزوجتها.. زواج ً تقليدياً كان هو.. ماذا عساي
أن أفعل؟
كان غريباً ما قاله لى زوج أختي الثانية الأستاذ (عاطف):
-
هل أنت مقتنع بها يا (عمرو).. المهم الأخلاق
والسلوك.. أما الطباع والتقاليد فشيىء سوف تكتشفه فيما بعد.. العشره هي النصيب
الحقيقى للزواج..
كل شيىء كان جميلاً..
بك أكثر من رائع.. شهر عسل غاية في السعادة.. يبدو أني عثرت على ضالتى التى طالما
بحثت عنها.. في بعض الأحيان كانت تذكرنى بحبى الأول (مروة).. في رقتها ظلها.
ولأن الحياة لا تتوقف،
فقد استمرت بكلينا ضمن آخرين.. أيام سلسة.. ولحظات صعبة.. تارة تفاهم.. وتارة عناد..
كان شيء عادي ما يحدث.. للحياة ضغطها على الأعصاب.. واسلوبها الحياه السريع الذي نحياه
اليوم كله يثير الأعصاب ويحرق الدماء ليل.. نهار..
هكذا كنت أتصور.. إنه العادي من الأمور..
تدريجياً
تحولت..
وازدادت إمرأتي تحولا
ً، خاصة بعد أن أنجبنا إبننا الأول (وليد).. كنت أسمع أمي رحمها الله تقول:
- الرجل على ما تعوّده
زوجته..
وكان لأبى رأي معاكس تماماً.. فيقول:
- الزوجة على ما يعودها زوجها..
أما أنا فكان لي رأىّ
الخاص.. كنت أرى أن الحياة الزوجية مشاركة.. لا يمكننا فصل جسدين بعد أن التحما
ليشاركا في صنع واستمرار الحياة.. فصلا ً تعسفياً بحيث نقول أن السلطة في يد هذا..
أو هي في يد تلك.. إنها مشاركة، وتتطلب الفاعلية في الأداء.. حقاً لا يمكن تجاهل
بعض الأوقات التي تستلزم قراراً صارماً من الزوج حتى لا تخال الزوجة أنها بلا رابط
أو ظابط.. للزوجة مسؤلياتها.. وللزوج مسؤلياته.. وهناك مسؤليات مشتركة.. المهم أن
يضع كل منهما في مفهومه أنه لابد من التضحية.. متى طُلبت.. ومهما تكون!
وفوجئت..
أن حالة الطوارىء سوف
تعلنها (المدام).. وأن الخناق والنكد سوف يكونان من الآن فصاعداً الخاصية الأولى
لحياتنا المتردية، لقد اكتشفت - فيما اكتشفت، فى غير إفتراء - أن زوجتي العزيزة..
مهملة، وإلى حد بعيد.. تتهرب من حمل المسؤليات.. كل همها الإعتناء بمظهرها، والاحتفاظ
بثيابها وحيويتها.. كأنها مازالت تريد لفت الأنظار إليها.. أو ربما تريد أن تغازلني
من جديد.
لا ضرر في أن تعتني
المرأه بنفسها.. وهذا مطلوب.. طالما كانت في حدود الأدب والدين.. إن اهتمامها
المبالغ بنفسها جعل من أطفالها الثلاثة شيئاً مهملاً في المنزل.. لا تلتفت إليهم
إلا حينما تصرخ فيهم قائلة:
- ما لكم.. لا يمكن أن
أراكم دائماً هكذا.. متهدلين الثياب.. ألم أعلمكم النظافة والنظام.. ألا تروننى أمامكم؟
من كان يظن أن الرقة
سوف تنقلب أنانية، نعم.. لقد كانت نرجسية بطبعها.. عاشقة للأنا.. شغلها الشاغل هو
مشاهدة التلفاز وأفلام الفيديو.. ومناقشة أحوال الممثلين عبر الهاتف مع زميلاتها..
أما أقصى أمانيها أن تمرح وتلعب وتخرج للترفية والرحلات.. كم كان شاقاً عليها أن
ترعى أولادها وترعاني.. كثيراً ماقلت لها متفاهماً:
- يا (عايدة) .. يا حبيبتي .. دعينا نتحاور فقد
مللت النكد.. دعينا نحدد أخطائنا بالضبط لكى لا نكرر الوقوع فيها يومياً.. لقد
أصبح مزرياً أن نتشاجر أكثر مما نتصافى، وعلى مرآى ومسمع أطفالنا.. إننا نظلمهم..
من حقهم علينا أن نوفر لهم جو هادىء، وعيشة آمنة مطمئنة.
كانت ترد فى غطرسة بادية:
- قول لنفسك.. إنت إللى عاوز تدفنهم هنا بالحيا..
كنت أرد محاولا ً احتواءها لنفكر معا ً.. فاقول لها وكلي رغبة في انجاح
الأمر:
- المهم أن نحدد الأخطاء الآن.. وليس أن نحدد مرتكبها..
بجفاء وخسة كانت ترد:
- على العموم أنا ليس
بي عيب.. ومن منه العيب يصلحه.. أنا بقول إنك تحاول تبقى (سبور) حبتين، وكل شيىء حيبقى
تمام..
كلام كهذا كنت أقابله بدهشة تعودتها:
- هكذا؟!
بغباء ترد:
-
هو هذا..
-
لقد حاولت كثيرا ً يا أبو (دنيا).. إنك لا تعرف
يا أستاذ (عاطف) مدى الجحيم الذي أحياه.. وما يؤلمني ويزيدني تأثراً أنى
أرى الأولاد الثلاثة وعلى وجوهم مسحة تشبه تلك المطلة من وجوه اليتامى الذين فقدوا
أماهتهم!
-
لا تيأس يا راجل.. لكل عقدة حل إن شاء الله..
أهمس متنهداً:
-
المهم أطفالي..
ثم أردف:
-
لو كان علىّ لما تحملت كل هذا.. ولكنى أفكر في هؤلاء
المساكين.. لقد صدقت حينما قلت لي منذ سبع سنوات خلت: إن طباع المرأة هو هذا
المجهول الذى يكتشفه الرجل بعد أن يكون قد احتوته السعادة أو استسلم لحزن ٍ عميق..
يقول الرجل مواسياً كأنما يشد على يدي:
-
لا أحد يعرف الخير فين يا أبو (وليد).. محنة وحتعدى
يا راجل..
-
لا أظن.. هذه المرة هي القشة التى قصمت ظهر البعير!
-
ماذا تقصد يا (عمرو).. إياك أن تتهور..
-
لن أتهور.. بل سأحاول ضبط الموازين..
حاولت..
وعقدت العزم أن تكون
الأخيرة من محاولاتي.. ذهبت لأبيها.. أحادثه في الأمر، عله ينصحها ويقف إلى جواري..
فخذلني.. ذهبت لأخيها لنفس الغرض.. ورجعت كما يقولون (إيد ورا وإيد قدام).. يا ويلي وويلها إن لم
تستمع هي للنداء الأخير.. يا ويل أطفالنا.. الأبرياء!
تكلمت معها..
أشد وأرخي.. أضرب وألاقي.. لكن دون جدوى.. لقد تبعثرت نداءاتي مع ما بعثرته رياح
عتية.. إسمها الطلاق..
- طلقني يا (عمرو).. لقد استحالت الحياه بيننا..
طلقني بالمعروف طالما أن هذا هو المصير المحتوم لعلاقة يخلوها التفاهم، وينقصها
الاتفاق..
وتم الطلاق..
كم كان أمراً غاية فى الصعوبة.. صدق الله العظيم حينما
وصفه بأنه أبغض الحلال...
-
بابا.. ماما فين؟
-
إنتم بعدتم عن بعض ليه؟
-
بابا.. ماما حترجع أمته؟
عشرات الأسئلة تُطرح
كل يوم، ولا أجد عندي ما أرد به.. هذه هي الأزمة الحقيقية.. أطفال بلا أم.. زوج
بلا زوجة.. وحدة.. شجون .. أنانية كانت حينما لم تفهم أن هناك بشر يحيون جوارها
ولهم حقوق عليها.. ظالمة كانت حينما ركبت صهوة عنادها وأرخت له العنان.. ربنا
يسامحك يا (عايدة).. لقد ظلمتنا..
-
معقوله.. من قال هذا؟!
لقد أبت إلا أن تختم
القصة بمزيد من الخسة والأنانية.. لقد تزوجت (الهانم) من آخر قبيل مرور عام
على طلاقنا.. ذهبت بلا رجعة.. وكان الأمل يحدوني في ارجاعها بعد أن نكون قد تعلمنا
درساً قاسياً في المحافظة وعدم التفريط..
تذكرت وجه أمي الباسم أبداً، ورحت أردد في نفسي:
- ماذا كنت تقصدين بإبنة
الحلال يا أماه؟!
من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية
(المنصورة في مارس 1996م)