القادمون إلى الجُـرح

لم تكن كريات الدم البيضاء على استعداد كافٍ هذه المرة.. فلقد أنهكتها كثرة الجراح بهذا الجسد العليل.. ولطالما هرعت تلبي نداء الدفاع عنه طوال سنوات.. وسنوات.. ولكن في هذه المرة الجرح أعمق بكثير مما يمكن لأحد أن يتخيله.. والعقاقير التي توصف لتضميده بين الحين والآخر لا تأتي بالنتيجة المرجوة!

سألت كرية أخت لها فقالت:

-         لقد سئمت الدفاع عن جسد كهذا..

-         هونى عليكِ يا أختاه.. فتلك وظيفتنا.. وإنه لمن الرعونة ألا ننجزها..

-         ولماذا علينا إنجازها وهو في طريقه إلى الموت كما أرى.. 

-         لا يتهرب من مسئوليته إلا كل نذل وجبان..

-         لكن..

-         ما من لكن.. لقد تفشت الأوبئة بالمسكين.. والسبب أولئك الجاحدون أباهم.. الذي منحهم كل رعاية.. وأمرهم بكل خير..

هزت الكرية السائلة رأسها في استسلام بينما أكملت الثانية كلامها قائلة:

-         هيا يا فتاة.. هيا إلى الجُرح الجديد..

سارت الكريات في صفوف متراصة كثيرة.. سريعة الخُطى، ولكن بسرعة أقل من المعتاد.. ثم وقفن قرب الجرح في انتظار إشارة الهجوم.. هنالك بعث المخ بالإشارة المنتظرة.. وجاء الهاتف محمولاً على ترج ٍ محموم:

-         هيا يا فتيات.. إبذلن قدراً من الجهد.. حاولن إنقاذه!

إنطلقن كلٌ صوب أحد أفراد جيش المعتدي.. أما المخ فقد تشتت أدائه بين متابعة المقاومة.. وبين الغرق فى ذكريات تليدة..

-         آه.. كم كانت أيام حلوة.. مجيدة.. ليتها تعود!

على مشارف الماضي وقفت العينان تنظران، ودمعتان رقراقتان تهتزان ببطء، لكنهما تعاندان الهبوط.. عند منعطف إجباري وحيد الإتجاه، حالك الظلمة، اضطرت القدم أن تحذو وراء بصيص من أمل.. أما النفس فلم تشتهِ وقتذاك إلا رمق من حياة كريمة..

-         تباً للإنكسار بأيدي أعز الناس.. تباً لتخلي الأحباء في لحظات العسرة!

عادت الكريات من معركتها خالية الوفاض.. وأقسم معظمهن ألا يدافعن عن جسد محموم.. دخل الإبن العاق، وهو واحد من عديدين، بعد أن إسترد ضميره وشيئاً من حيائه.. ألقى نظرة على جسد أبيه.. أما بركان الصراخ فقد كتمه الخجل وحَجّره الندم.. تسأل في نفسه قائلاً:

-         لماذا لم أرَ الحق قبل سنوات.. لعلني كنت تمكنت من انقاذه!

جاء الهاتف أنيناً من أعماق الجسد الممد:

-         لا زال أمامك وقت.. فقط حاول يا بني..

تدفق الدم مرة أخرى وحمل معه الكريات المتمردة صوب الجرح البالغ.. صاحت إحداهن، وهي من القلة القليلة الأكثر تفاؤلاً وإخلاصاً، في حماس وحبور:

-         هيا يا فتيات.. فقد بعث الله لنا بالأمل ثانية ً..

سُمع دوي أقدام هادرة.. وتعالت كل الأصوات الممكنة بأرض المعركة.. إهتزت رموش المريض في تثاقل شديد.. ربما كانت هذه  بداية الشفاء..

                                                ومن ذا يدري؟

من مجموعة (سيريالية.. بعضها من بعض) القصصية

(الإسكندرية في فبراير2007م)



تعليقات