قالت متلطفة وهو لايزال يحاول مع هاتف العملة المستند إلى حائط السنترال:
-
إنه لا يعمل..
سأل إذا لم يكن متوقعاً منها الحديث:
-
نعم؟
-
إن به حرارة، ويعطيك الرقم المطلوب ولكن ما إن يتواصل
طرفي المكالمة ينقطع الخط..
ضغط عالقة الذراع مرتين ثم عقب وهو يضع الذراع نفسها على
العالقة:
-
أكيد أن خزينة النقود ممتلة..
في الواقع لم يكن هذا
الهاتف هو الوحيد المستند إلى ذلك الحائط، بل أن آخر أصفر اللون مثله خاص
بالمكالمات الداخلية يجاوره على بعد خمسين سنتيمتر من الموضع.. رفع ذراع الآخر
وحاول معه، لكن العمله المعدنية لا تثبت.
سألها هو مبتدئاً:
-
وما بال هذا؟
أجابت مبتسمة:
-
لم أجربه..
-
إن النقود لا تثبت به..
-
أكيد أنه مثل الآخر..
-
ربما..
قد تكون هذه نهاية
طبيعية.. وجب عليه بعدها أن ينطلق إلى حال سبيله.. لكنه أبى إلا الاستئناف، فالشاب
صاحب العينين الزرقاوتين والبنيان الممشوق ما يزال على موعد مع الفراغ، يهوى
المداعبة، ويستمرأ لعبة العاشق المتيم.. رمقها بنظرة حانية.. قابلت نظراته بخجل
يخفى حبوراً ما.. اقترب من الأريكة الخشبية ذات المسند المفرغ.. جلس إلى جوارها ثم
همس فى أدب متسائلا ً:
-
وماهو الحل من وجهة نظرك؟
ابتسمت
ثم اتبعت متهكمة:
-
من وجهة نظري؟!
أكدّ
وهو ينصب لها الحوار فخاً:
-
بلى.. وجهة نظرك.. أليس لكل منا وجهة نظر فى شئون الحياة
المختلفة؟
أجابت
وخاطر ما يعربد فى ذهنها:
-
بلى.. ولكن فيما نعرفه..
سألها
واثقاً:
-
وما لا نعرفه.. أما لنا حق فى إبداء رأى فيه؟
داعبت
خاتماً ذهبياً فى يمينها ثم قالت وهى تحذو حذوه:
-
إنها الحماقة بعينها يا أستاذ..
تنحنح وصمت هينهة استأنف بعدها يقول:
-
ربما.. حتى هذه وجهة نظر..
نظر فى ساعة الحائط
الشامخة فوق رأسي الهاتفين ثم ألقى نظرة خاطفة على ساعته فوجد أن بينهما فارق فى
الوقت قوامه ثمانية دقائق.. رأى أن هذه فرصة سانحة لاستئناف الحديث.. قال متودداً:
-
كم ساعتك يا آنسه؟
أجابت بعد أن ألقت نظرة ريبة على ساعة يده:
-
الثامنة إلا عشر دقائق..
ضحك ساخراً ثم علق فقال:
-
إذاً ساعتي مضبوطة.. هكذا هى حاجيات الحكومة.. هواتف
ممتلئة.. وساعات مؤخرة.. ربما لو كانت لأحدنا لأعتنى بها..
قالت تعانده الحديث:
-
إنها أيضاً ممتلكاتنا..
حك شاربه.. ربما أغاظه التعليق البادر منها.. قرر فى
نفسه أن تكون له الغلبة.. قال متخابثاً:
-
صدقتِ.. قصدت فقط الاهتمام بها.. أم أن الامتلاك حجة
للتخريب؟
-
ما عنيت ذلك..
-
أعلم..
ساد الصمت برهة.. فشاع
بأرجاء المكان إذا لم يكن سواهما بالسنترال غير موظفيه وشاب يجرب مكالمة بإحدى
الكبائن.. فالوقت الثامنة مساءً لأيام الصيف، والكل مُلهُون مع المسلسل العربى
المذاع عبر التلفاز.. شيىء يشغل الوقت ويكسر حدة الملل.. لولا أنها رتابة وحدها
متابعة الدرما الساذجة، أو الكوميديا التافهة خاصةً بعد متابعة عمل ما جدير
بالذكر..
همس جريئا ً:
-
أتجاوز حدودى إن سألتك عن اسمك؟
قالت بجرأة تلاقى جرأته في أكثر من موضع:
-
شرط أن تخبرنى عن اسمك؟
قال منفرجاً، وإبتسامه النصر تزين شفتيه:
-
اسمى (خالد).. وأنتِ؟
علقت على غير توقع منه:
-
أكذب الأسماء إسمك..
اكفهرت ملامحه لحُيظة
وما أراد التعقيب.. إنه لن يمنحها حق التفلسف عليه أو إهانته.. سوف يتركها تدرك
الخطأ وحدها وتتأسف.. هنالك فقط يمكنه أن ينصب لها فخاً جديداً.
ضحكت وقالت موضحةً:
-
ألا ترى أن لا أحداً خالد فى هذه الدنيا؟ البقاء والخلود
لله وحده..
تفككت تكشيرته شيئاً
فشيئاً إلى أن أنقلبت سحنته هادئة تبرق خلالها إبتسامة عرجاء فى عينيه حينما
استكملت قائلة:
-
لا تقلق.. إن لى اسم غريب كذلك، لا يخبر معناه غير
قليلون..
متندراً قال:
-
بالطبع أنا لست واحد منهم!
ابتسمت وقالت:
-
اسمى (دلجان)..
كأن لم يسمع جيداً.. تساءل:
-
ماذا؟!
قالت مؤكدة ً:
-
(دلجان)..
-
بما أنك خبيره فى عوالم الأسماء.. هلا أخبرتينى عن
مدلوله؟
قالت مبتسمة وهى تضغط بكلتا راحتيها على موضع إحراجه:
-
(دلجان) أى روح القلب..
كاد الصمت يعود ثانية لولا أنه عرض مفاجئاً:
-
أرانا ننتظر بلا فائدة، فهل رافقنى وخرجنا للسير سوياً..
ربما قابلنا هاتف فى الطريق، وأتممنا غايتنا خلاله؟
امتصت المفاجأة غير
المذهلة بشيء من الحكمة.. قالت له والانتصار والرغبة يتعاركان على طرف لسانها:
-
إننى أنتظر شاباً بداخل الكابينة رقم (3) يُجرى مكالمة
هاتفية لأخيه الوحيد المشتغل بالغردقة..
سأل هامساً، وقد امتقع وجهه وتبدلت سحنته:
-
أخوكِ هو ذاك؟
أجابت وشعوراً بالأسف يلزمها:
-
لا.. غير أنه يخبر أخاه بموعد خطبتى عليه، الذى تحدد
مساء الخميس القادم..
استقبل صاحبنا النبأ محمولا ًعلى كتفي هزيمة نكراء، لكنه حاول إخفاء ذلك غير مجُد ٍ، قال بعد أن نهض واقفاً:
-
ألف مبروك.. على العموم لقد شرفت بمعرفتك..
طئطئت برأسها دليل
المبادلة.. أما هو فقد انطلق مخذولاً يلاحقه شعور كاسح بأن حاسته السادسة قد تعطلت!
من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية
(المنصورة في يونيو 1996م)