الظل

    كان يتكىء كرسياً هزازاً، اعتاد والده (رحمه الله) أن يقتعده في كل مساء بعد أن يتناول غذاءه ليتصفح الجريدة التي كان يأبى كل الإباء أن يتصفحها في أوقات العمل الرسمية.

الكرسي الآن منزوٍ في أحد أركان (الفرانده) الواسعة، ولكن لوجوده في نفس المكان ألف معنى ومعنى.. إنه الذكرى التي لا تفارق الأذهان.. إنه الصوت والحديث.. النصائح.. الضحكة والابتسامة.. وهو الدمعة والشهيق والزفير.. وهو أيضاً لحظات الصمت الطويلة.. والتفكير والتأمل.. معان ٍكثيرة يلمها كرسي جامد بين جناحيه.. ولكن المعنى الأكبر أهمية من بينهم هو الفرق بين الوجود والعدم.

كان الليل قد حل منذ قليل.. وسكن كل شيء حول الصبي.. لم يكن في البيت غيره.. فأمه ذهبت لقضاء بعض حوائج المنزل.. وأخته خرجت مع خطيبها للنزهة بعد أن أذنت لها أمها بالخروج.. أما أخوه الأكبر فخرج يجلب بعض الأوراق الهامة للمذاكرة، فهو في السنة النهائية بكليه الهندسة، وهذا يلزمه بعمل جاد.. وأداء رجولي.

هكذا..

لم يتبقِ فى المنزل سوى الصبي.. عقد واحد هو عمر (نديم) غير أن الاعتماد على النفس واحد من التوجيهات الهامة التي تلقيها الأم على أبناءها بين الحين والأخر.

نعم.. سكن كل شيء حوله.. إلا شيء واحد.. ذلك الخاطر القديم.. المستحوذ على عقله وفؤاده.. إنه مازال طفلاً تتلبسه بعض الهواجس الشيطانية التي لا يعلم مداها ولاخطورتها.. إنها الأن تكتمل وتبزغ.. إنه الآن يضع الخطة الأكيدة لتنفيذ حيلته التي لا تخر منها نقطة ماء على حد تعبيره!

وفجأة..

ارتعد (نديم) قائماً.. فيما بقى الكرسي يهتز بعنف كأنما يعلن التمرد هو الآخر.. صاح الصبي في نفسه متسائلاً والهم يكبح أنفاسه:

-      لكن ماذا سأفعل في ظلي عندما يراني وأنا؟!

دار حول نفسه دورة كاملة فيها العنف كله وأضراسه تتضاغط فوق بعضها حتى كادت أن تتهشم.. حدث نفسه والقلق يخلع جذورعقله:

-      لقد أخبرتنى أمي منذ زمن مضى أن الظل لا يفارق المرء أبداً.. فهو خلفه أينما توجه.. تقول أيضاً أن الظل مطلع على أفعاله.. كل أفعاله.. وأحياناً تسمى أمى الظل بالضمير.. أي ضمير.. لا أعلم.. المهم أنها تقول أنه شاهد مثالي على الأفعال.. وأن ظلي دائماً ما يبلغها بما أصنع أولاً بأول..

شهق (نديم) ثم زفر صائحاً:

-      ماذا أفعل إذاً في الظل.. ماذا أفعل؟؟

  صمت الصبى برهة وقد أطرق شارداً.. ثم صاح والثقة تصيغ كلماته:

-      نعم.. فكرة جيدة.. لقد وجدت الحل الأمثل للقضاء على الشاهد المثالي.. أحكم غلق الأنوار فيموت ظلي ثم أنطلق فأتم عملي على الوجه المطلوب.. نعم.. إنها فكرة عظيمة.. ولتمت أيها الظل.. لتمت على جدران هذا البيت اللعين!

سار الصبي خطوات مفعمة بالحدز تجاه حجرة والدته برغمه الوحيد بالمنزل.. جعل يدفع باب الحجرة في لطف وهوادة.. مضى في عزمه.. أحكم غلق الباب خلفه.

في هذه اللحظة بالذات..

انقطع التيار الكهربي (فجأةً) ولم يدر الصبى بذلك.. وجه يده إلى مفتاح المصباح ليستبين طريقه إلى الهدف ثم يقطع الإضاءه لكي لا يراه ظله وهو يفعل.. همس متخافتا ً:

-      جميل جداً.. انقطعت الكهرباء.. هذا شيء مثالي أيضاً..

تقدم الصبى إلى الهدف أكثر فأكثر، وقد نسى إهمالاً أو سهواً أن يعيد مفتاح الإضاءة إلى وضعه الأول.. اللهم لم يكن يشغله في هذه اللحظة الحاسمة سوى أن يتحقق هدفه على نحو من الإتقان والحبكة.. ما إن صار (نديم) أمام الدولاب الكبير بغرفة والدته حتى أدخل يديه تعملان في أحد الأدراج بحثاً عن شيىء يعرفه.

وأخيراً..

وقعت يداه على مسدس والده، الذى كان قد ورثه الأخير عن أبيه..  مسدس عتيق، يثير الزهور والكبرياء في نفس الصبي اليتيم.. فدائماً ما كان يفخر الولد بهذا أمام أقرانه ورفقاءه، وكثيراً ما كانوا يكذبون فخره، وينعتونه بالعبث والهذيان.. خاصةً ذلك الزميل (الثقيل) (عاطف) الذي كان يردد ما إن تنبث شفتا (نديم) بشيء عن هذا فيقول:

-      يا عم بلا قنعره كدابه.. قوول كلام نصدقه..

-      لكن هذه هي الحقيقة..

-      جميل.. ما بيننا وبينك إلا أن ترينا الدليل؟

-      أي دليل؟

-      المسدس.. ذلك إن كان موجودا ً!

-      طبعاً موجود.. وسأريك ما هو أكثر..

-      ماذا؟

-      حزام جدى ونظارته أيضاً عندنا..

كان (عاطف) ينهي الحوار متهكماً والضحك يملاء ثغره:

-      لقد كان جدك إذاً من أصدقاء الملك..

مر كل هذا سريعاً بعقل (نديم)، والذى أخذ يتأمل مسدس جده.. إنه لأثري جميل.. ابتسم الصبي في زهواً وقال:

-      غداً تراه يا (عاطف) وتبهت ملامحك..

وفجأة..

تواصل التيار فضوى المصباح بالانارة.. حالذاك ارتبك (نديم)، وانطلق فزعاً يجر وراءه أذيال الخيبة، بعد أن تحرك ظله أمامه على الحائط.. رمادي اللون..

راح الصبي يردد محسوراً، وخلفه الأدلة واضحة:

-      ملعون أيها الظل.. لماذا تتبعني.. ملعون.. لقد افتضح أمري!

من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية

(المنصورة في أغسطس 1993م)
تعليقات