كابوس

"عندما يمتزج ظلام الليل بالخوف يصنعان شبحاً يرعب ويقهر.. وعندما يمتزج بضوء القمر لابد  وأن يصنع ملاكاً رقيقاً يطمئن ويسعد"

**********

كانت الساعة قد ناهزت الواحدة بعد منتصف الليل، وتوقفت الأمطار منذ ساعة تقريباً عن الهطول، بعد أن بللت أوجه المنازل ، وارتوت من ظمأها الحارات والأزقة.. وكان الفتى العائد من سهرة (حفل زفاف) يمضي مترنحاً في هذا الوقت الموحش من الليل البارد.

لازال ذهن الفتى مشغولاً بملامح السهرة.. كل من فيها، وكل ما فيها، معازيم.. حِسان..  كئوس.. زمر وطبل.. راقصة.. زغاريد.. ضحكات ملتوية تثير في نفس الولهان مثله متعةً  وضعفاً.

همس الفتى فى تمن ٍ بارد ٍ:

-         ياه  ياوله.. ولاَّ الرقاصه.. عليها عود.. يابوي .. إنما صح!

لم تسلم العروس من تمنيه هي الأخرى، فقال والحسد الصبيانى يفعم كلماته:

-         أيوه ياعم.. حظك في رجليك.. أخذت عروسه قشطه.. بيضه ومليحه.. وتتاقل باللؤلؤ مش بالدهب..

ابتلع ريقه ثم أكمل يقول:

-         دهب أيه يابا.. أذا كان شعرها نفسه سلاسل دهب!

راح الفتى يمصمص في مرارة زائدة، لكن ثغره انفرج عن إبتسامة فاترة وردد:

-         أوعدنا.. أوعدنا يارب.. يا مؤلف القلوب.. ألف قلبي على واحده بنت حلال.. لا جابت ولا حتجيب زيها ولاده!

ثم مضى صاحبنا في طريقه يغازل فكره المشحون.. خاصة بالحريم.. فهو في سن المراهقة.. بل في أوج مراحلها..

-         يا عيني منقيهم على الفرازه!

فجأة...

انتعش ذهن الفتى فجعل يصارع الأرض المبتلة بقدميه، وقوى عزمه كي لا ينهال عليه والده باللعان المخجل لتواضعه (على حد قوله).. لكنه عاد فهمس في يأس وقال:

-         ياللا.. ضربوا الأعور على عينه.. وأنا كده كده اتأخرت وإللي كان كان.. والشتيمه مفيش منها مفر.. ربنا يسترها بقى..

مضى الفتى يداعب أمنياته التافهة في حرارة بينما كانت قسوة البرد تشحذ قوته على مواصلة المسير، ردد  يقول:

-         على رأي إللي قال ما اشتدت إلا فُرجت..

بعد دقائق...

انحنت به الطريق المعبدة إلى حارة ضيقة لم تُعِبد، حتى أن ماء المطر صنع مع تراب الأرض خليطاً من طين غليظ فمشى الفتى على حذر، فالطريق متسخة، ومصابيح الإنارة قليلة، وضوءها خافت.

قيد خطوات قلائل...

انزلقت قدما الفتى اللئيم على حين غرة، وارتطمت مقعدته بالأرض في قسوة، لكن المسكين نهض قرفاناً في تمرد يؤدبه الحذر حتى لا تتكرر (الوقعة).. فالمرة القادمة سوف ينزلق على جذور رقبته بدلاً من مؤخرته! لذا أخذ يعد خطواته كأنما كان يعبر فوق حبل شُد بين جبلين.. وقبل أن يبلغ صاحبنا رأس  الحارة  ذاتها  جاءه  صوت  جهور من خلفه:

-         أنت.. أنت يااللي هناك.. انتظر.. أوقف..

التفت الفتى إلى مصدر الصوت في تثاقل شديد فرأى شرطي عظيم البنية.. طويل القامة.. كث الشارب.. غليظ الملامح.. تبين عليه القسوة في كل موضع.. حالذاك لم يملك الفتى أمر نفسه إذ تسلمه الهرب فانطلق كالصاروخ صوب المنزل، وجعل يتخذ من زقاق جانبي سبيلاً يراوغ به المندفع خلفه، لكن المفاجأة أوقفت شعر رأسه، وقشعرت بدنه حين وجد الشرطي ذاته يسد منفذ الزقاق الآخر في  وجهه!

أنهكت المفاجأة الجديدة قوى الفتى فخر على الأرض المبتلة فاقداً الوعي.. بعد دقائق معدودة أفاق الفتى بمفرده ونظر حواليه فلم يجد سوى ظلام حالك يبدد شيئاً ضعيفاً منه مصباح صغير معلق عند مدخل أحد البيوت.

أخذت الدهشة نصيبها من الفتى، لكنه نهض وانطلق إلى حال سبيله، يسب ويلعن كل ما يخطر بذهنه.. ومضى صاحبنا، تسلمه حارة إلى أخرى، ويلقيه زقاق إلى آخر، وتلتوى به الطريق مرات ومرات.. وها قد اقترب أخيراً من المنزل.. حارة.. أو حارتين ويصل.. ثم فجأة.. أفزعته يد ثقيله هوت على كتفه الهزيل في شدة أقفزته من فوق الأرض.. التفت في استيئاس إلى صاحب اليد وهو يحدجه بنظرات إمتزج فيها الإشمئزاز بالهلع.. فقد كان نفس الشرطي الذي طارده حتى قليل، فاندفع مرة أخرى على غير هدٍ.. يسابق الزمن ويطوي الأرض بقدميه طي (التوربينى) الماضي بين القاهرة والإسكندرية!

من حارة إلى أخرى طويلة يكاد ضيقها وتعرجها يخلعان الأنفاس استقر الفتى أمام منزل متواضع من طابقين.. ذى باب خشبي أخرق غير مطلي.. كُتب عليه بخط عريض رديء رقم المنزل.. دفع الفتى الباب الخشبي المهترأ دفعة كادت أن تهشمه.. ثم استقر بسرعة خلف الباب مستنداً بظهره يلتقط بعضاً من أنفاسه الهاربة.. هنيهة واشتعل النبض.. وسكن النفس.. وجحظت العينان.. ناهيك عما حدث لشعر الرأس رعباً.. لقد عاد الوجه ذاته يعلو جسد ضخم.. ولم تكن هذه المره كسابقاتها.. بل كانت هول وحدها.. فمن أين أتى الشرطي.. وكيف عاد.. وكيف  صار أمامه.. في منزله.. لا أحد يعرف!

تسربت دماء صاحبنا، وجفت عروقه، وهرب صوته بلا عودة، فلا يستطيع أن يستحث أحداً لأجل نجدته.. أما الشرطي غريب البنية فقد كان يواصل ضحكاته بلا توقف، ويصدرصرخات يهز صداها كيان المسكين هزا ً.. والباقون قابعون داخل المنزل يغطون فى نوم عميق!

اقتنع الفتى في يأس بالغ أن هذه نهايته لا محالة، وأنه سيودع الدنيا بأسرها خلال ثوانٍ معدودات.. وأسلم أمره لرب الأرض والسماء.. ولكن صرخة مكبوتة تصدرها كل قواه المنعقدة.. هي صرخة النجاة بلا ريب.. استيقظت أمه على إثرها فانطلقت صوب غرفة نوم ابنها وهي تردد:

-         أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أيه يا بني.. ألف بعد الشر عليك يا حبيبي!

-         مفيش يا ما.. ده لازم كابوس..

-         معلش يا بنى.. معلش ياحبيبي..

ثم قالت وهى تلم عليه الغطاء الذى أزاحته قدماه بعيداً:

-         تلاقيك مصليتش العشا إمبارح يا (وليد

أجاب منزعجاً وشارداً:

-         غلطه يا ما.. ومش ح تكرر ثاني!

-         طيب ياحبيبي.. إستغفر ربنا واقرا الفاتحه كده ونام..

-         حاضر ياما..

كل هذا الإزعاج ولم يستيقظ لأخويه الصغيرين جفن.. وهو إلى جوارهما على السرير المقابل بنفس الغرفة.. جذبت الأم باب الغرفة وقد قابلها زوجها متثائباً.. متسائلاً:

-       في أيه يا أم (وليد

جذبته المرأة في دلال النسوة وهى تردد:

-         تعالى يا راجل.. مفيش حاجه..

من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية 

(المنصورة في 1993م) 

تعليقات