المرآة

كالعادة..

تنظر وتتأمل.. تعبث بكل شيىء.. بأي شيء.. إلا شيء واحد هو جمالها ورونقها.. الدنيا في مفهومها تعني الجمال، والجمال عندها هو نقاء الخلقة، وحُسن المظهر.. فقط.. لا تكاد تفكر في نوع آخر من الجمال حتى يمنعها عالمها الناعم الذي تحياه.. ترف وبذخ.. أموال سائبة تتصرف فيها كيف تشاء، وأنىّ  تشاء.. لا تتوقف أمام شيء يبهرها إلا واقتتنه.. لا تفكر، إذ التفكير في هذا من شئون الفقراء، ومحدودى الدخل، والذين يقتاتون حياتهم بالكاد.. فالتفكير عندها إنما يمثل تسلية عقلية، أما التفكير عند هؤلاء فيمثل الحياة بأسرها.

لقد كانت ذات يوم واحدة من أولئك.. كانت تفكر مثلهم، وتحيا نفس حياتهم، لكنها كثيراً ما حلمت بالحياة الناعمة الراغدة.. شقة تمليك.. سيارة فارهة.. حساب جارٍ في بنك معروف.. متع وملذات.. تغترف منها بكلتا يديها، ولايهم الثمن، وتهون التضحية.. كانت دائماً ما تقول لنفسها "ماذا يأخذ الريح من البلاط"، وما فائدة الشهادات والتعليم.. ما فائدة أن تتلف عيونها الساحرة بالسهر، أو ترهق جمالها الآسر بالإنحناء على الكتب، والبحث عن المتاعب، واحراق الأعصاب.. ولأجل ألا تعاني على طول الخط  فقد رأت أن تتزوج بالثانوية العامة.. فالتفكير المسلي، والحياة الراغدة يريحان البال، ويقويان الصحة والجمال.

"ما لي وما للفقر والمتاعب..  فليذهبوا للجحيم"..

هكذا كانت تحدث نفسها بأنها لن تجد فرصة قيمة كتلك التي يعرضها عليها "صلاح بيه"  الرجل الثري الذي تعدى الأربعين بقليل في حين أنها مازالت تحاول تخطى السابعة عشر بمشقة.. الحق يُقال.. لقد كان الرجل كريماً بطبعه يغدق عليها وعلى أهلها البسطاء.. ولا تخلو يداه من الهدايا القيمة كلما أتى لزيارتهم.. وكم تكررت هذه الزيارات!

بعدما اجتازت إمتحان الثانوية بنجاح في غيرتفوق قالت كلماتها الأخيرة:

-      سأتزوج.. ولكن سوف أكمل تعليمي بالجامعة..

-      عفواً.. لا أحب أن تكون زوجتي تلميذة..

-      كيف؟

-      تذهب وتجيىء كالأطفال.. وهي تتأبط بعض الكتب..

-      ولكني لن أتنازل عن هذا الشرط..

-      إن الفتيات يتعلمن في الجامعة ليتخرجن ويعملن ويكسبن لقمة عيشهن.. ولكنك يا حبيبتي لن تحتاجي إلى التعليم.. فهو لن يفيدك في شيىء.. بل سيعطلك عن التمتع بالحياة..

-      الفتاه العاقلة يا بنيتي هي التى تفكر في راحتها لا في شهادتها..

-      لكن!

-      أي لكن.. بلا شهادات بلا كلام فارغ..

مر يومان...

تغير رأيها في أردافهما.. يومان آخران وتحدد موعد الزواج.. بعد أسبوع واحد.. تزوجت (ليلى) وذهبت تمضى حياتها فى هذا الاتجاه .. كانت تستيقظ كل صباح لتطمئن على جمالها، فتجلس ساعة كاملة تتأمل خلقتها، وتتحسس مفاتنها، وتمسح على شعرها الذهبي المسترسل دائماً فوق كتفيها فى خفة ودلال.. وكثيراً ما كانت تبتسم لنفسها في المرآة، وتهمس في أعماقها بما يعني "سبحان الله"..  وكيف أنه فضل بعضهن على بعض في الجمال!

في الواقع كان جمالها يمنحها نوعاً من الغرور الغبي ذلك الذي يسحق الفكر ويستمرأ الاستهانة بكل شيىء عدا صاحبه.. نعم.. فلقد كانت (ليلى)، بطبيعتها وبرغم رقة حالها، نرجسية.. تتصرف مع الجميع على هذا الأساس السقيم.

ذات يوم...

استيقظت (ليلى) عند الظهيرة كما هي عادتها أن تفعل.. تأملت نفسها في المرآة الكبيرة بغرفة النوم، ولكن شيئاً غريباً حدث اليوم.. نظراتها ليست على عادتها.. بل يشوبها النقص، ويطلقها القرف والضيق.. أو ربما هو الملل.

فقد أصبحت تراها حياة مملة.. زوج يعمل باستمرار.. يأتي كل يوم في الهزيع الثاني وأحياناً الثالث من الليل ليلقي نفسه بعض المرات على الفراش فيجدها ناعسة فيوقظها بلطف، وتستيقظ هي بتذمر، وتبدأ لحظات المتعة.. إنها متعتها الخاصة، فهي مع ما بها من غرور وكبر إلا أنها شرهة في هذا الأمر إلى حد يجعلها رخيصة دائماً إلى زوجها (رجل الأعمال).. ربما كان مبعث الملل لديها أيضاً هو أن كل شيء مُجاب.. لا تطلب شيئاً إلا وجدته بين يديها.. وليس لها حظ من الانجاب، والرجل مشغول لا يفكر في شيء آخر غير عمله ومزاجه الذي لا يسمح لأحد من كان أن يعكر صفوه.

شرد الفكر بـ (ليلى) قليلاً.. أو ربما كثيراً.. تذكرت تلكم الأيام الغابرة.. وكمْ كانت رغم إحتياجها لا تخلو من سعادة حقيقية.. همست في نفسها:

-      رغم قلة ما كنت أملك إلا أنني كنت أملك الكثير..

عَلىَ صوتها شيئاً، فحدثت نفسها في ندم:

-      لقد تسرعتِ يا (ليلى).. والأن أنتِ كالجارية ليس لها من الأمر شيئاً سوى  امتاع زوجها.. لا روح.. لا معنى.. لا أمومة.. لا صديقات مخلصات تستطيعين البكاء بين أيديهن، وهن يربتن على كتفك في رقة وحنان.. الآن تحقق كل شيء.. حلمك التافه صار حقيقة وبات تنفيذ الامنية واقعاً!

دق جرس الهاتف...

جذبت السماعه ثم ابتدرت قائلة:

-      آلو.. (ميرفت).. مش معقوله.. أخيراً يا وحشه.. إزيك يا (ميرفت).. عامله آيه؟

-      الحمد لله.. المهم إنتي عامله آيه؟

-      لا جديد تحت الشمس!

-      آه يا مكاره.. بتخذي العين عن نفسك، وعن السعادة إللي إنتي فيها..

-      سعاده؟! مش تدعيلي يا (ليلى)؟

-      ليه.. خير؟

-      كلها شهر وآخود الليسانس..

-      ياه يا (ميرفت).. هوه الليسانس ده مش عاوز يخلص بقى؟

-      ربنا يسهل.. أهوه إحنا بنعمل إللي علينا..

-      ياللا إتجدعني.. خلينا نفرح بيكي..

-      عن قريب بإذن الله.. بعد التخرج.. مباشرةً..

-      والله؟

-      بجد.. في موضوع كده..

-      غير الأولاني؟

-      يووه يا (لولو).. ما الأولاني راح لحاله.. إحنا دلوقتي في الثاني..

-      بس المهم يكون جد..

-      لأ.. المره بقى جد الجد..

استبد بهما الحديث كعادة أن يفعل مع النسوة.. تبادلاه في كثير من الشكليات وأخبار الآخرين.. كيف صار هذا.. وكيف صارت تلك.. ممن تزوج هذا.. وممن تزوجت تلك.. وهل خُطبت فلانه أم لازالت خالية قيد الطلب.

-      فاكره (علا).. إللي كانت معانا في ثالثة رابع أدبي؟

-      (علا).. (علا) مين؟

-      إللي كانت أول الفصل على طول..

-      آه.. افتكرتها.. (علا).. أم ضفيره؟

-      أيوه.. بالظبط..

-      مالها يا (ميرفت)؟

-      هتناقش رسالة الماجستير بعد أربع شهور..

-      رسالة الماجستير.. معقوله.. هي مش أدنا؟!

-      طبعاً في عمرنا.. لكن إنتِ ناسيه إن أنا سقطت في الثانويه سنه.. وفي الكلية سنتين..

-      آه.. صحيح.. وهي في كليه آيه بقى؟

-      كلية الألسن..

-      آيه؟

-      الألسن..

-      آه..

-      كلية لغات في مصر..

-      معقوله.. يعني بتسافر (القاهره) كل يوم؟!

-      لأ طبعاً..  دول عاشوا هناك خلاص..

-      قابلتيها أمته..  وإزاي عرفتي ده كله؟

-      بالصدفه والله يا (لولو)..

وقع الخبر على (ليلى) كالصاعقة، وأحدث في نفسها نوعاً من الغيرة والإزعاج.. شردت للحظه تفكر في أمرها وما آل إليه حالها.. ولأول مرة تمر فكرة الطلاق على ذهنها خاطفة، كما لو كانت وميضاً لمع فجأة في غرفة حالكة الظلمة.. لم تلتفت (ليلى) مره أخرى إلى حديث (ميرفت) إلا والأخيره تردد:

-      آلو.. آلو.. (لولو).. مالك يا (ليلى) الخط قطع ولاّ آيه؟

-      آيوه يا (ميرفت) بتقولى أيه؟

-      بقولك.. فاكره الواد (علاء)..

-      (علاء) مين؟

-      (علاء) يا (ليلى)!

-      لأ بجد.. (علاء) مين؟

-      (علاء).. إللي كان بياخود معانا درس إنجليزي في ثانيه ثانوي ..

-      أيوه عرفاه.. مش إللي كان معجب بيا، وكان عاوزني أخرج معاه؟

-      أيوه.. عليكي نور..

-      بس أنا كنت بصده ديمن.. دا كان متهور، ومهوش وسيم ..

-      إنتِ عارفه يا (ليلى) المبهدل ده إلى مش عاجبك..

-      مالوه؟؟

-      خلص كلية صيدله، وسافر السعوديه، وبيشتغل هناك بمرتب كبير قوي..

-      وما اشتغلش هنا ليه.. بدل من الغُربه؟!

-      بيقول إنه عاوز يكوّن قرش بسرعه..

-      آه.. وإنتي عرفتى كل الحاجات دى إزاى؟!

-      هقولك ياستي..

انطلقت (ميرفت) تقص على (ليلى) قصة طويلة عريضة عن الصدفتين اللتين جمعتاها بـ (علا) و(علاء) كلٍ على حده.

انتهت المكالمة...

انتهت بعد ساعة دردشة.. دردشة حريم.. وَدَعت كل منهما الأخرى على وعد بلقاء.. وضعت (ليلى) ذراع الهاتف في شرود تام.. ذهب ذهنها يستعرض أمر زميلاتها.. وزملائها الذين تخرجوا من الجامعة، وحصلوا على شهادات عُليا، وكيف أن بعضهم جعل يشق طريقه بجدية تؤهل له الراحة والسعادة عما قريب.. بل أن إحدى زميلاتها ستصبح دكتورة في الجامعة بعد قليل.

سارت (ليلى) خطوات مترنحات فى غرفة النوم الواسعة مطرقة الذهن تفكر.. افاقت فجأة من أفكارها المحمومة فوجدت نفسها أمام المرآة الكبيرة.. نظرت إلى صورتها.  

صاحت تقول مستهزأة :

-      فالحه.. الكل بيحارب علشان يكون له كيان وإنتي..

شهقت بعناء ثم قالت:

-      وإنتي ولاحاجه!

ولأول مرة راحت (ليلى) تصب لعناتها على المال.. ولأول مرة تسخر المسكينة من الجمال.. يبدو أنها أدركت الحقيقة.

من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية

(المنصورة في سبتمبر 1993م)


تعليقات