"هناك.. حيث يرقد الموتى.. تعيش تجارب الماضى"..
**********
الشيخ صالح..
عندما استقر الجمع من
الرجال وخلفهم جماعة من النسوة ما زلن يتوالين في حركة متراخية، وجد الشيخ (صالح) - وهو حامل للقرآن، قد
ربى عمره على الخامسة والخمسين، يجمع بين وقار الخلقة وعذوبة الترتيل - أن فرصة قد
واتته ليتلو بعضاً من كتاب الله.. بدأ بخلع نعليه وفوقهما استقر على الأرض قبالة
القبر مباشرة، ثم ألقى نظره جامعة خاطفة عن يمينه ويساره، وتنحنح في تأهب، ثم استعاذ
بالله من الشيطان الرجيم، وجعل يتلو سورة (يس) في عذوبة وخشوع جذبت انتباه
الحاضرين من الرجال، أما النساء فقد تجمعن في الناحية المقابلة.. حيث استقر بعضهن
على الأرض، فيما بقيت أخريات وفوق رؤسهن أو بين أيديهن (أسبتة) ممتلئة عن آخرها
(بالرحمة والنور) تلك الصدقة من الأطعمة والفاكهة التي يوزعها أهل الميت على روحه
عند المدافن..
**********
زائر..
الشيء المثير للانتباه،
لاسيما انتباه (فكري) ذلك الزائر الآتي مع أمه من المدينة، حاملين كل مشاعر
الأسف ووافر الرثاء للمرحومة، والدة جارتهم الطيبة، أن عدداً من المقرئين القرويين
أخذوا يتراصون حول الشيخ (صالح) واحد جوار الآخر، وجعلوا يرددون معه في صوتٍ
واحد نفس آيات السورة المباركة، لولا أنه كان أعلاهم صوتاً وأعذبهم تلاوة.. ثم خلف المقرئين تتابع الأطفال منتهجين
مثيلهم، علهم يصيبون شيئاً من (الرحمة والنور) المستفة هناك في الأسبتة الريفية.
كان للقرآن حلاوة خلبت
لب (فكري)، خاصة وهو بين المدافن، فكان لوقع الأيات سحر يُضاف ومعنى يثير..
لم يملك (فكري) أن يمنع دمعات تسربت من عينيه عندما قرأ الشيخ الصالح
قرآناً كان من بين آياته "أيحسب الانسان أن يترك سدى" يالقدرة الله"..
"وكل نفس ذائقة الموت".. فيالضعف الإنسان وقلة حيلته..
وسط نهنهات الحريم.. ومصمصات الشفاه.. وتراخى الجباة.. كان
لسان حال كل شيء يقول:
-
الأرض أرض الله.. والبيت بيت الله.. والمال مال الله..
*********
طفولة..
شيء آخر أثار انتباه
ذلك الشاب اليانع.. إنه (سعيد)، وهو صبي في عمر الزهور له بعض مما في الشيخ (صالح)
كأنما ورث عنه ذلك، كان فيمن شارك الشيخ التلاوة.. الأمر إلى هذا الحد عادى لولا
أن الشيخ وقف بالصبي يحادثه بعد مافرغا من قراءة القرآن، وقد أصاب شيئاً من تكلم
الرحمة الموزعة على روح الفقيدة.. التفت (فكري) لكلمات الشيخ (صالح) وهو يوبخ
(سعيد) متأثراً:
-
ألم أنهاك أيها الفتى عن أن تقرأ القرآن لأجل شيىء غير
وجه الله.. ألم أعلمك أن للقرآن قدسية.. وأنه
لا يُباع ولا يُشترى.. إن حالك ميسوره فلما الجرى وراء ما للفقراء المستحقين.. يا ولدي
اكتسب من عمل شريف واتلو القرآن لوجه الله تعالى عله يشفعن لك يوم القيامة.. واعلم
أن ما لله لله.. وأن ما لقيصر لقيصر.. فإن وهمت أن أحداً سيتيبك عن قراء تك لغير الله فانت طامع إلا في دراهم معدودات..
تبسم (لفكري)
لحديث الشيخ، وأيقن لحظتها أن حدسه كان في محله، على الجانب الآخر فقد اندهش لأمر
هؤلاء المقرئين!
**********
قرويون..
في بيت ريفي فسيح
فُرشت إحدى حجراته بالحصر جلس الشيخ (صالح) مستنداً إلى الوسادة القطنية.. وإلى الحوائط الثلاثه الفارغة جلس
المعزون مستندين.. وفي وسط الحجرة إتكاً أحد أبناء المرثوة على ركبتيه أمام موقد
من الفحم في وسطه قدر عتيق من النحاس به ماء وبن، وجوار الموقد (صينيه) من الصاج المُنكل، عليها فناجين القهوة منكفئة على وجوهها، وما إن تنضج
القهوة حتى يشرع الرجل في صبها ويوزعها أحد أحفاده على الحضور.. يحدث هذا بشكل
بسيط ومتواتر والشيخ (صالح) يتلو من القرآن ربعاً تلو الآخر يفصل بينهما
استراحة قصيرة.. والمعزون بين داخل وخارج.. وإلى جوار الشيخ جلس السيد (حافظ)
متمعناً فى تلاوته، وبين كل ربع وآخريلقى على الحاضرين معلومة دينية رشيقة المخارج،
تجد طريقها إلى ألبابهم في سهولة ويسر.
**********
زرع الموت..
ثلاثة إرباع من القرآن
سمعهم (فكرى) قبل أن ترسل له أمه صبياً يدعوه إليها.. استأذن الشاب من الجمع
واصطحبه الإبن الثاني للفقيده إلى الدار الأخرى التى تجمعت فيها النسوة..
-
حان وقت العودة..
-
شكر الله سعيكم..
-
وغفر ذنبكم..
لاحت
من (فكرى) التفاته وهو يجذب باب السيارة حين سمع أحد الأهالي وكان شيخاً
وقوراً يربت على يدى ذلك الأبن ويقول في ثبات:
-
تجلد يا رجل فما نحن إلا زرع الموت..
دخل (فكرى) إلى مقعده
واغلق الباب ثم نظر أمامه وهو يتذكر يوم وفاة جدته..
من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية
(المنصورة في مارس1997م)