الرقي: طبع أم تطبع

 خلت نفسي  - التي أحبت التقدير - أنها جُبلت على ذلك، برغم أنني لم أنشغل يوماً بهذا في صغري.. فهل كان الجين المسئول عن ذلك نائماً، ثم استيقظ فجأة.. أم كان سلوكاً أكسبته إياي حوادث الدهر، وسجالات الحياة؟

بقيت سنوات حتى تخرجت في الجامعة، وبالي منشغل بأمور خاصة جداً، ولم أكن ذات حين في ما مضى فضولياً، إذ لم أكن أهتم بأخبار الأخرين، ولم أتتبع عورة أحدهم.. فقد كنت مقدراً جداً للخصوصية.. ولأني كنت حين يهدد أحدهم خصوصياتي أفزع ثم أهرع ولا أقبل.. فقد آمنت بحق الآخر في تأمين خصوصياته، والذود عنها كذلك.. وتساءلت هل كل الصفات الحسنة في شخوصنا جبلية أم بعضها جبلي والآخر مكتسب؟ وكيف نفرق تحديدا بينهما؟ وما أهمية هذا التميز الذي نقصده؟

ثم تذكرت أن الانسان منا يُولد على الفطرة..  وهي الاستواء.. ويدخل في معناها كذلك النقاء.. فالصفة الجبلية تكون إذاً على أحسن ما يكون، حتى يتدخل الإنسان بنفسه ويده ويشاركه الآخرون والزمان في تشكيل وعيٍ جديد بداخله.. فهل تبقى الصفة على وسمها القديم.. أم تنحرف بقدر.. أم تتغير بالكلية؟

إن الاجابة المباشرة على هذه الأسئلة تحسم الأمر سريعاً.. وفي كلمات قلائل.. وليته بهذه السهولة.. لكان كل شيء سهلاً ميسراً، لكن الأمر كما اظنه معقد إلى حد بعيد.. وفي رأي المتواضع أن الصفة الجبلية لا تبقى على حالها القديم أبداً، بل تتأثر كثيراً، فتتشوه حينًا، وتختفى أحيانا، ولكن يبقى لها مع اختفاءها أثر يدل على أنها كانت هنا يوماً ما.. ويُختبر صاحبها في معترك الحياة، فإما أن يصمد وتصمد معه هي الأخرى، أو ينهار فتتلاشي من قاموس طباعه.. أو يظل يعترك فينتصر حيناً، ويخفق حيناً، وهي معه تتأرجح.. وجولاته في دروب الحياة هي التي تشكل وعياً داخلياً في لب وجدانه بأن يقبلها كما هي نقية، ويبجلها كنعمة كريمة من لدن حكيم خبير تستوجب الحمد والشكر والثناء الحسن، أو يرفضها وعيه المتأزم ويعتبرها سوءة من سوءات النفس، وسبب من أسباب اخفاقاته المتوالية.. أو يقبلها لكن ليس على صورتها النقية، ويظن في أعماقه أنها تحتاج إلى تشذيب، وأن نقاءها إنما يجعله هدفاً لأسهم الحاقدين او لاستهجان الناقدين.. فترى صاحبها يقلل من قوة ظهورها في شخصيته.. كمن ينفر من كون الناس يعتبرونه طيباً، وأن الطيبة تعني السذاجة او ما تعنيه "هبل" في لغتنا العامية.. وعلى قدر قلقه تجده يمعن في التحرر منها.. ثم ربما يعود بعد حين ويؤمن بأنها نعمة مباركة حقيق عليه ان يحافظ عليها.. أو يقطع أي حبل للوصل بينهما، مؤمناً بأنها سبب في ايذاءه وتأخره في الوصول إلى أهدافه العليا.. وقد يكون الإنسان فاقد لها من الأساس لكنه بالملاحظة استوقفته في بعض ممن حوله فأعجبته فأسرته فارتجى التحلي بها فعمد إلى اكتسابها بكل اصرار وبداخله يقين جلي بأنها من النعم التي ستزين سماته الإنسانية وتكمل نقصا به واضحا للعيان.

نعم.. إنه لأمر معقد أن يحسم المرء جدلاً هكذا، ربما يستغرق منه كل سنوات العمر دون أن يصل إلى النقطة الفارقة سواء كانت قبولاً أم كانت رفضاً.. وتركيزاً على عنوان مقالنا.. فالرقي واحدة من هذه الصفات الكريمة من جملة طباع شخص ما.. من حسن حظ أحدهم أن يكبر وقد كبرت معه.. ويزداد حظه حُسنا أن يرى في فصول حياته ما يجعله يزداد تمسكاً بها كونها تباركه، لكن حظاً سيئاً ينتظره إن لم يجبل عليها، أو بمعنى أدق لا يُنَشأ عليها، ولا يحمله على التحلي بها حامل، ويزداد حظه سوءً أن يرى في فصول حياته ما يجعله يمقتها بالكلية، وينفر من أن تكون إحدى طباعه.. ومع ذلك فبيده الاختيار ما عاش بالغاً حراً عاقلاً.. فماذا هو فاعل؟

ولولا الرقي ما شعر المرء بكونه إنسان، ولا خبر احتراماً لذاته كلما بصرتها عيناه في مرآة أو حين تنعكس صورته في عين أحدهم.. والرقي-  لمن لا يعرف قصدي - هو الأسلوب المحبب لدى الناس في الأقوال والأفعال.. وعكسه هو الانحطاط والتردي والرقاعة، وكلها أساليب مستهجنة بكل تأكيد.. ولأن الرقي فطري - في فهمي - فلابد أن يكون من أدوات الحكم على الأشخاص وتقييمهم بمنتهى الحيادية؛ بأن تُرد الصفة إلى أصلها الكائن فيه، فإذا سادت فهو كذلك، بل ويستحق لقب "راقٍ" بكل جدارة، وإلا أصبحت متنحية فيظهر منه ما يظهر من دونية وشر.. وتُنزع عنه الصفة فيحصد لقب "وضيع" بكل استحقاق!


تعليقات