العمل رهينة الأمل

"كل متوقع آت".. عبارة حازمة حاسمة نُسبت إلى الإمام علي رضي الله عنه.. وفيها من البلاغة ما فيها.. وبها من الحقيقة ما بها.. ذلك بأن المتطلع إلى الخير في أمر أو شيء حتماً يراه.. وعكسه صحيح فما من متطلع إلى سوء إلا ويحصده بين يديه!

وعجبت من شأن أمرؤ علم بما قاله سيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله الصادق الوعد الآمين (): "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا".. (صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري).. ثم هذا المرء "ينفر ولا يبشر".. ويطرح على أقرانه ما يزيدهم إحباطاً من الحياة، ونفوراً من السعي فيها.. فيا هذا إن لم تكن قادراً على بث الأمل في نفوس من حولك، فأقله لا تكدر عليهم أيامهم، ولا تيأسهم من بلوغ اهدافهم.. ودعهم لمصير لا يعلمه غير خالقهم.. فهو أرحم بهم.. ولا يبدل من حال إلى حال سواه.. بمقتضى ما لديه- سبحانه - من علم وحكمة وقدرة واقتدار.. ولقد ذم مولانا عز وجل في قرآنه الكريم اليائسين للناس فقال عز من قائل: "يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ".. (سورة يوسف: آية 89).

ولأن الإيمان عقيدة فسلوك، فلابد من أن يرسخ بوجدانك أن تحيا بالأمل مهما تكالبت عليك مصاعب الدنيا، ومهما قابلتك العقبات والمحن.. فما علم عاقل يوماً بأن هناك نتيجة بغير اختبار.. ولا سعادة بغير بذل.. ولا نجاة بغير تضحية؟

إن ثقافة المتشائمين - لمتأمل - هي ضرب من ضروب الخنوع والخبل.. ودرب للفقر من دروب الأبالسة.. وفي ذلك المعنى يقول الحق سبحانه وتعالى: "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم "، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان" (سورة البقرة : آية 268).. أما الأمل فمفتاح لباب العمل، والذي هو ساحة للاختبار.. ثم أن النجاح يولد مزيد من النجاح.. فكيف إذاً لذي لب أن يصادر كل هذه المراحل بحكم نافذ بات بأنه "لا فائدة".. بل ويتندر بمقولة زعيم الأمة (سعد زغلول) "مفيش فايدة".. ولقد اختلف الرواة في أي مناسبة قالها الرجل.. بل أكدت زوجته أن فقدان الأمل لم يتسلل أبدا إلى نفسه في قضية مصر.. بل قالها حسب ما ذكره الصحافي الكبير (حافظ محمود) لزوجته صفية زغلول قبل وفاته، حين شعر بأنه يحتضر، ولا فائدة من تناوله مزيد من الدواء.. ولو أن هناك من ينسبها له في أثناء خلافه مع (عدلي يكن).. وآخرون ذهبوا إلى أنه قاله حين تعثرت مفاوضاته مع الإنجليز.. وفريق أخير يرى أنه لم يقل تلك العبارة من الأساس.

لتعلم يا صديقي أن الفائدة دائماً كائنة.. وأن الجزاء على السعي نحو تحصيلها رهين لنيتك ثم لعملك.. وإلا فما الفائدة من وراء غرسك لفسيلة بيدك والقيامة تقوم؟ أليس هذا هو أمر كلفك به رسول الله () حين قال: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل"؟ (رواه الإمام أحمد وغيره عن أنس رضي الله عنه)..

ناهيك عن أن المتفائل رابح في كل حالاته.. آمن فطبق ثم جنى الثمرة، حتى وإن لم تكن ما ليست بباله وعلى هواه، فالصبر الذي يتبعه كفيل بأن يرفعه إلى مراتب الصالحين في الدنيا والدرجات العلا في الآخرة.. وهل من شك في أن هذا هو الثواب العظيم والنعيم المقيم الذي يرتجيه كل منا؟

لكن ما يثير الحفيظة بهذا الخصوص، هو أن من الذين يحاولون غلق أبواب الامل في نفوس من حولهم، طائفة تتشدق أفواههم بأقوال الحكماء، وتلهج ألسنتهم بذكر الرحمن.. ولا يستقيم الأمر هكذا أبداً، فلو صلح المعتقد لصلح القول ثم العمل.. أم لمل هؤلاء من وراء ذلك غرض خفي؟ ومن بينهم أيضاً من إذا غضب خالف.. وإذا حنق بدل.. وإن لم يتوسد الأمر هاجم وكدر.. فأي عجب لعقيدة كتلك لا يستقر معها المفهوم.. ولا يرافقها عمل منزه عن غاية دنيوية زائلة؟!

ومنهم من كأنهم تربوا على مبدأ ميكيافيللي القائل بأن "الغاية تبرر الوسيلة".. أو أنهم يلتمسون في جل أوقاتهم "التقية"، فيستترون وراءها كحجاب يحميهم حتى تسنح  لهم فرصة مثالية للانقضاض والفتك بغريمهم.. ثم هم لا يترددون!

إياك ثم إياك أيها الساعي في طريق الحياة - وإنها لوعرة - أن تسلم رأسك بما حوت لمن يدس فيها مفاهيم خاطئة، أو أن يشكلها على هواه.. فإنك محاسب على ذلك لا محالة.. ويقول في ذلك رب العزة في كتابة العزيز: "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون" (سورة الأنعام : آية 116).. ثم هل ترضى في مذلة أن يوجهك جاهل أو مغرض؟ أو أن تسير وراء من يكيل بمكيالين؛ إذ كان خيره في التفاؤل أذاع به، وإن لم يكن أذع بضده وروج له.. حتى يقنط الناس من بعضهم، وتفتر عزائهم، وتقطع الرحم الواصلة بين وأشاجهم.. فتصبح حياتهم نكداً وكدراً خالصاً؟

في الختام إنك لتجد المتفائلين ذوي همة ونشاط وحسن خلق.. لا يغلبهم على أمرهم متشائم وإن علىَ، ولا يفت في عضدهم يؤوس وإن قوىَ.. وذلك - على ما أعرفه - هو الهُدىَ.. ثم هم رابحون على كل وجه، فقد عاشوا حياتهم ببشرهم مسرورين، وماتوا وهم لربهم في هذا الصدد طائعين.. فأختر بكامل قواك العقلية لأي من الفريقين يكون شكل مسعاك في دنيا الناس. 

تعليقات