لحظة

 توقف الزمن..

وخرجت من عباءته لحظة جريئة، تود لو تعرف البشر على نحو يمكنها من إسترداد حريتها المسلوبة.. قفزت في مرح.. تشكلت أمام مراّة القدر.. إمرأة.. فاتنة.. مشتعلة الأنوثة.. أرتدت أفخر الثياب وأنمقها، شريطة أن تكون لها القدرة على الإغواء.. تطيبت بريح الفتنة والإثارة.. أتاها الداعى الذي أثار جرأتها هامساً بكل ما أُوتي من وسائل الاقناع:

-  تحركي.. إياكِ والتردد فإن فيه هلاكك.. كوني كما يريدون.. لا تخافي الفشل فإنهم لن يرفضونك على هذا النحو..

هبطت الأرض..

لمست الحياة بأصبعها لأول مرة.. تحسستها.. إقشعر بدنها.. شردت لوهلة.. سرعان مافاقت وتذكرت مهمتها.. إنطلقت تشق لها بين قلوب البشر وعيونهم طريقاً بلا رحمة أو هوادة.. أمام (فترينة) تعرض الحُلي والمصوغات توقفت.. وزعت نظراتها بين هذا وذاك.. وهذه وتلك.. لكنها أولت تركيزها لصاحب (الفترينة) عن بضاعته.. دخلت إليه.. تأوهت في جرأة استغربها الرجل في البداية، لكن جمال المرأة وفتنتها حرك الجامد فيه، وأزكى حماسته على المقايضة.. صدرعنها صوت مائع، تجلو عذوبته صدأ الأذن من نداءت الجائلين وغيرهم.. قالت له والخلاعة تُقَلب كلماتها على وجهين من بريق:

-         مساء الخير.. هل أجد عندك ما أنشد؟

أتاها الرد متهتهاً، لكن به الرغبة:

-         بكل تأكيد.. ولو لم يكن عندي لجلبته لكِ ولو من..

قاطعته وهي تغلق فاهه بإبهامها:

-         أريده منك أنت فقط..

مسروراً تساءل:

-         أنا.. ولما أنا بالذات؟!

فى خبث أجابت:

-         لأن لديك ما أريـد..

قال مستوضحاً:

-         ما هو؟

قالت بميوعه لاتخلو من تركيز فكري:

-         بسيطة.. أمنحك ما تريد.. وتمنحني ما أريد..

-         وماذا تريدين؟

-         أقايضك بالحُلي في سبيل المتعة!

-         ماذا؟!

تركته يندهش كيفما أراد.. شرعت في المغادرة وهي على حالتها من التمايل والتخايل، الذي استخدمته كسلاح له فاعلية.. لم تكد تغادر بقدميها عتبة المحل حتى استوقفها نداء حان ٍ كله إستجداء:

-         وافقت..

كان لن يرضيها أن تجرب مع واحد من البشر إذ رأت أنه لا يمثلهم جميعاً، لذا كان من الطبيعي أن تعيد الكَرَة مع آخر وآخر..

أمام لافتة خُط عليها "مركز أبحاث الذرة" توقفت مطرقة.. تفكر في المحاولة، لكن هذه المرة يجب أن تحاول مع آخر يمتلك المعرفة التي افتقدها الأول، ربما أفادته في إتخاذ القرار.. دلفت إلى المركز.. ترنحت في دهاليزه.. استقرت أخيراً أمام غرفة أستاذ في العلم نفسه.. طرقت الباب بلطف، ما أن أتاها الرد سامحاً بالدخول حتى ولجت من الباب ولا زال جسدها اللعوب على تأوهه القديم.. ردد:

-         مساء الخير..

أتاها الرد لطيفاً مهذباً:

-         مساء النور..

-         هلا اسديت لي خدمة يا الدكتور؟

-         بكل سرور.. ماذا تطلبين؟

-         أعني في فهم حقيقة الكهرباء ..

دهشاً ابتسم الأستاذ وقال:

-         أجادة أنتِ!

أجابت والكلمات تتلاعب على شفتيها في ميوعة نادرة، وعيناها تبرقان كقطعتين من لؤلؤ:

-         إلا إذا كان لديك مانع..

اعتدل الرجل فى مقعده وعيناه لا تزالا خلف نظارة القراءة تطالعان في مَرجع ما فُتح إلى منتصفه.. اقتربت منه أكثر، وكلها دهشة من أمره.. بدا أنه نسي دخولها عليه وأنها سألته أمراً.. ما إن اصبحت على يمينه حتى وجدها تنزع النظارة عن وجهه وتغلق المرجع وقد دفعته جانبا.. قال منزعجاً والحدة تكسو ملامحه:

-         ما لكِ يا أمرأة.. ماذا تطلبين؟

عادت الإجابة إلى أذنه وهي تمسح على رأسه مداعبة ً:

-         أطلبك أنت!

-         وما بال حقيقة الكهرباء؟!

-         لا زلت أود معرفة كيف يتجاذب الموجب والسالب..

-         والمقابل.. إنك فاتنة ولا أحسبك تفعلين هذا بغير مقابل؟

-         رأسك..

-         تحتاجين إذن رجلا ً بغير رأس!

-         بل أطلب العلم الذي بناها..

أطرق يفكر لحظة في المقايضة.. التفت فوجدها على باب الغرفة.. تمناها فهو الذي قضى حياته كلها بحثا ًعن العلم في مجاهله تراوده المتعة عن كثب.. لأول مرة يقاوم هذا الهاتف الخفي داخله بأن لا خير في لذة يتبجها ندم.. من أجل ذلك ابتاع اللذة بالمعرفة، وهوت رسائله وكتبه ومراجعه بأحد أفران البحث.. تلتهمها نار لن يخمد لها لهب.

المحاولة الثالثة..

كانت هي الأخرى محاولة ناجحة، تترجم الشفرة المجهولة بين اعتقادات البشر من ناحية وسلوكهم من ناحية أخرى.. رجل دين يستنصحه التائبون والمذنبون فينصحهم.. فكرت اللحظة قبل دخولها عليه.. تمنت الإخفاق حتى تستحيل الحياة في نظرها أن تمضى بغير مُثُلٍ أو قيم، ولكن للشفرة أحكام.

بادرت كالعادة متخابثة ً:

-         أيها الشيخ أسألك وإن أجبتني منحتك نفسي..

ارتعدت قسمات الرجل وقال مهتاجا ً:

-         أعوذ بالله من غضب الله.. استغفر الله العظيم.. أغربي عن وجهي أيتها الملعونة!

ابتسمت.. ووجهها يزداد تورداً من أن أحداً جعل يقاومها.. تأوهت مستفزة.. ثم أتبعت بتهكم:

-         أتخافني أيها الشيخ.. وأنت معك العلم والإيمان؟

علق الشيخ غاضاً طرفه:

-         بل أخاف شيطانك..

-         ألا تخاف شيطانك؟

-         بلى..

-         لماذا؟

-         لأنه الوحيد الذي يجلب لي المتاعب والآثام..

-         والمتعة؟

-         ما لها؟

-         ألا تخشاها؟

-         حتماً إن كانت في الحرام..

-         والتوبة؟

-         ما لها هي الأخرى؟

-         ألا ترى أنها تمنحك فرصه للمتعة؟

-         كيف أيتها اللعوب؟

-         كما تفهم بالضبط أيها الشيخ..

-         ولماذا المتعة الحرام؟!

-         لأن فيها لذة السلب.. المجازفة.. فيها مذاق الخسارة والتفوق.. فيها الاقتحام.. الرجولة..

-         بلهاء.. أفكارك بلهاء..

وجدت اللحظة الهيفاء أن لا سبيل إلى إختراق حصن الشيخ المنيع إلا بأن تكثف اغوائها له.. فجعلت تتعرى.. خلعت ملابسها قطعة تلو قطعة.. ما إن وجدها الشيخ تفعل ذلك حتى اهتاج وجد في الانصراف قبل وقوع الفاحشة.. لم تمهله فرصة الفكاك.. قبضت على معصمه.. تعلقت بعنقه.. ثم همست وهى تحاول معه بما امتلكت من فتنة وإثارة:

-         إني لك فاغتنمني ثم تب..   

شعر الرجل ببركان يتفجر فى عروق رأسه.. اقترب.. خلع ساترة التقوى.. تمرغ في أحضان الفاحشة.. ولكن بعد ما تداعت كل قواه المزعومة! بات جلياً لهذه اللحظة الجريئة أن شيئاً ما يحول بين اعتقادات البشر وسلوكهم.. تساءلت.. ما أتاها أحد بالإجابة.. سارت في طريق العودة.. اعتقدت أن مازال أمامها الكثير لتعرفه عن البشر لولا أن عمرها قصير للغاية..

بينما كانت على عتبة الزمن وسوف تولج ساحته إذ بما يشبه الإنسان تراءى في عينيها.. قبيحاً عَفِناً.. استوقفتها نداءاته الغليظة:

-         أنتِ..

سألت في استغراب:

-         أنا؟

أجاب متغابياً وقحاً:

-         نعم.. أنت..ِ يا داعـرة..

-         ماذا تريد؟

-         إلى أين أنتِ ذاهبة؟

-         إنى عائدة إلى عباءة الزمن حيث خرجت..

-         منذ متى وأنتِ بخارجه؟

-         منذ قليل.. قليل جداً.. هل تعرفنى؟

-         بالطبع.. فأنا من زينتك لهؤلاء جميعاً..

-         من تقصد؟

-         أقصد من تعرفين..

-         أوضح!

-         بائع الحُلي.. عالم الذرة.. رجل الدين..

-         وكيف عرفت بأمري وأمرهم؟

-         أيتها الجاهلة.. لقد كنت أساعدك في عملك..

-         ولكني لم أرك.. لم يكن غيرى وغيرهم.. كل على حِده!

-         هل حسبتي أن لكِ القدرة على إنجاح الأمر بدوني؟

-         مازلت جاهلة دورك.. من أنت؟

-    أنا الشيطان يا جاهلة.. بينما تراودين الواحد فيهم عن نفسه، أقوم أنا بتزين الفكرة في رأسه، وسلب إرادته، واحداث نوعاً من الخلخلة في قراره، حتى يصير بلا إرادة أو قرار..

-         ولماذا البشر بالذات الذين تفعل معهم ذلك؟

لإن علمها قاصر سألته هذا السؤال.. أما هو فقد أجاب والشر يتطاير من عينيه:

-         لأنها الحرب بيني وبينهم.. إنها سِجال إلى يوم القيامة..

علقت ذاهلة:

-         حقـاً!

ثم شردت تفكر هل أدركت شيئاً مما يحول بين اعتقادات البشر وسلوكهم؟!

من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية

(المنصورة في يونيو 1996م)

تعليقات