الغليون

 قالت له وهي تحتويه بين أحضانها الدافئة:

-      لقد كان أبوك رجلاً طيباً وحنوناً..

سألها في براءة وعفوية:

-      لماذا إذن لا تعيشان سوياً؟!

أجابت منفعلة، لكنه لا يزال صغيراً لا يلحظ مثل هذه التغيرات الدقيقة البادية في أعماق النفس:

-      مفيش نصيب..

بجهل سأل:

-      يعني أيه نصيب؟

في شرود أجابت:

-   يعني قسمه.. يعني حظ.. يعني بخت..

علق تعيساً:

-      حظكوا كان سيىء يا ماما؟

طئطئت برأسها ثم زادت في احتضانه، وهي تقبل رأسه.. همست بصوت خفيض:

-      بكل تأكيد.. لقد كان حظنا سيىء!

"لماذا يا (وائل).. إنها ذكريات أليمة يا بني"

في كلية التربية تخرجت.. كنت جارته.. كنت أحبه.. وكان يعشقني.. تبادلنا الهوى على غير رغبة أهلنا.. على امتعاضهم وليّ شفاهم تزوجنا.. وماذا يهم.. الأهم أننا متحابان.. كان يكبرني بأربعة أعوام.. أحببت الشعر عنه.. وتعلمت على يديه معاني الكلمات وهمس الأحاسيس.. كان دنيتي الجميلة.. وكنت كما كان يردد "روضته الخلابة التى يقطف منها قصائده" كتب فىّ شعراً جميلاً.. أشعرني بنفسى بل زاد.. زهوت.. حلّقت بلا أجحنة في دنيا السعداء.. ولكن هو الإنسان.. المتمرد أبداً.

ودوام الحال من المحال..

لقد تعرف على شاعرة في إحدى منتديات الأدب التي كان يحضرها.. خرجا سوياً.. تكلما.. تحابا.. وصرت أنا نمرة 2.. وأنا المعتزة دائماً بكرامتي.. كيف أكون (إستبن).. يرجع إليه وقت الحاجة فقط.. ومن يعرف متى تكون هذه الحاجة!

رفضت.. زعق فىّ قائلاً:

-      صدقت (هند بنت عتبة) حين قالت "إنما النساء أغلال فليختر الرجل لنفسه أخفها عليه"..

طلبت الطلاق.. انفصلنا بعد أن عشت معه أحلى وأجمل سنوات حياتي.. خمس سنوات..

قالت لي أختي:

-      هؤلاء هم الشعراء.. يحبون فيعشقون ثم يجذبون معاطفهم ويولون الأدبار!!

بعد الإنفصال...

سافر الرجل إلى أوروبا.. دار فيها دورته.. وأخيراً استقر به المقام فى فرنسا.. بلاد الأعاجيب.. بلاد المتعة باللاحدود.. تركته الشاعرة المصرية في أول جولاته.. لقد افتضح أمره.. إنه يريد دائماً الهاماً.. والالهام لا يأتي إلا بواحدة.. ولكي يضمن لشعره استمرارية النضوج والحيوية عليه (هو) أن يشعر بحيويته أولاً، التي لا سبيل إليها إلا بالتجديد، وملاحقة النساء المتمردات على قارعة الطريق.. عمل صبياني هو من رجل في مثل سنه، أن يغازل الإناث من أجل بناء قصيدة.

انقضت سنتان..

بعد استقرار الرجل في باريس.. كان يراسل خلالها ابنه.. خطابات لا تنقطع.. آخر ديوان صدر له في باريس.. مكالمات هاتفية على غير انتظام.. وصورة فوتوجرافية له وهو ينفث الغليون.. اندهش الصبي لمنظر الغليون في فاه أبيه.. إنه يلقيه بين فكيه في فتور لا يخلو من غرور، أو ربما استهزاء.

-      ما هذا الذى يضعه أبي في فمه؟!

أجابت الأم وهي لا تحاول التحديق في الصورة:

-      إنه غليون.. أي (بايب)..

-      ماذا؟!

-      إنه شيء يشبه السيجاره في استعماله..

صمت الإبن وأفسح الطريق لأفكاره.. صار يربط بين صوت أبيه عبر الهاتف وصورته.. هاب الصبي أن أباه متعجرف.. ثقيل.. في اليوم التالي سأل أمه خائفاً من اجابتها:

-      أماه.. هل كان أبي يضحك؟

عاد السؤل بآخر ينم عن دهشة الأم التي قالت:

-      فيما؟

قال الصبي:

-      هل كان خفيف الظل.. يحبه الناس.. أم..؟

ترددت الأم، وتلكئت الإجابة على طرف لسانها، لكنها قطعت ترددها قائلةً:

-         نعم.. لقد كان أبوك كذلك.. ولكن لما هذا السؤرال المباغت؟!

شرد الفتى وقال لاوياً شفتيه:

-      لا.. لا شيء.. مجرد خاطر..

مات الأب..

أتاه النبأ مكتوباً في (تليغراف).. أُرسل من (باريس) بمعرفة بعض أصدقاء (صبرى القداح).. والده.. بكاه الصبى بكاءاً مريراً.. صام عن الأكل والشراب يومين متصلين غير شيء زهيد تلقمه أمه لكي يصلب عوده.. قالت له ودمعتان جامدتان في عينهما:

-      لقد كان أبوك رجلاً طيباً يا ولدي.. شجاعاً.. أصيلاً كان هو.. فلا تبتئس هكذا لرحيله.. لقد ذهب حيث يُكافىء على أصالته!

فوق دولاب أمه.. كان يبحث ذات يوم عن شيىء فُقد منه.. وضع مقعداً فوق منضدة صغيرة وصعد فوقهما.. جعل يفتش عن مفقوده وأذهلته مفاجأة.

عاديٌ جداً بالنسبه له أن يفقد لعبة أو ما شابه.. ولكن المثير لعواطفه أن يجد شيىء من رائحة والده.. شيء كان مفقوداً فوق ظهر الدولاب.. شيء مرت عليه سنون وسنون.. إنه غليونه.. كانت أمه في المطبخ تعد للغذاء.. جذب نظارة قراءتها من فوق (الكوميدينو) جوار سريرها.. استقر على المقعد الوثير في غرفة المكتب التي كانت يوماً ما لأبيه.. ارتدى النظار.. نفض عنه غبار السنوات المنقضية.. نفخ فيه مرتين أوثلاث.. ألقاه بين شفتيه الصغيرتين مصطنعاً  كبرياءً وتغطرساً.. مرت الأم أمام الباب صدفةً فوجدته مفتوحاً.. ألقت نظرة.. أبرقت عيناها عندما وقع بصرها على حبيبها وهو يفعل ذلك.. تقدمت إليه.. غادر الكرسي.. اقتربت منه.. اقترب منها.. احتضنته ودمعة صغيرة تتهادى من عينيه.. دمعة صغيرة لكنها ساخنة، سقطت على خدها فالتهبت.. ثم جعلت تقبله وتبكي..

ترُى ما الذى أبكاها؟

(المنصورة في مارس 1996م)                                     


من مجموعة (سيريالية.. بعضها من بعض) القصصية


تعليقات