آباء.. وورثة

 -     أنا عندي ست  سنوات.. مات أبي وأنا رضيع فلم أره مطلقاً.. تزوجت أمي عقب موت والدي من رجل ضخم يشبه الفيل يُدعى (أبو الرضا).. ومن يومها ورصيف الشارع هو بيتي وملاذي.. تلك كانت الكلمات التى ألقاها الفتى في أذني بلا مقدمات تُذكر.. فأصابني بوجوم لحظي استوعب فيه ما قيل.

وقفت أتأمل (سمير) – كما دعى نفسه – فإذ به طفل خاوي القدمين.. متهدل الثياب.. أشعث الرأس.. يبدو على وجهه النحيل المتسخ ظرفا يشو به الكثير من حزن اليتم والتشرد.. جعلت استوضح المزيد فقلت:

-     ثم ماذا يا (سمير

إستطرد الطفل في براءة تستنزف حنان القلوب:

-     أريد أن أموت..

-     تموت؟!

-     آه..

-     ولماذا تريد أن تموت؟

-     لأذهب إلى أبي..

-     أين؟

-     هناك..

-     ولماذا تريد أن تصل لوالدك هناك؟

أجاب بعفوية كادت تسقط الدموع من عيني:

-     لأنني أحبه جداً جداً.. وأكره هذه الدنيا..

-     لماذا؟

-     لأن الفيل يضربنى كثيراً.. ولا أحد يرفع عنى هذا الأذى..

ساد الصمت لحظات قلائل قبل أن يقطعها الفتى بصياحه قائلاً:

-     معك شلن؟

دسست يدي في جيبي فعادت بقروش عشرة، ألقيتها في يده فقفز مهللاً ثم قال:

-     هذه بريزة.. أنا أعرفها شلن وشلن..

-     ومع من تعيش الآن يا (سمير

أجاب وهو مشغول بتأمل قطعة النقود المعدنية:

-     مع خالتي..

-     ألا تذهب إلي المدرسة؟

-     أنا فيى إجازة..

-     لكن لا أجازات اليوم.. المدرسة تعمل..

لم يبالِ الطفل بجملتي الأخيرة وانطلق يودعني وهو يعدو:

-     مع السلامة.. مع السلامة..

إبتسمت من ظرفه وحزنت من فقره ويتمه.. وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى أتى الأتوبيس الذي انتظرته طوال ثلاثين دقيقة هي فترة حواري مع (سمير).. صعدت واقتعدت خلف رجلين دار بينهما هذا الحديث:

-     إن لديه من الأموال ما لا يحصيه عاد.. إنه مليونير!

-     لكني لا أعرف له ولداً..

-     إنه لا ينجب..

-     سوف تؤؤب كل هذه الأموال إلى زوجته المصونة إن وقع له مكروه!

-     إنه يتلهف الإنجاب ويتمنى ولداً يحمل اسمه ويرث ماله وأطيانه!

-     ألم يُعالج؟

-     لقد ذهب الصيف الماضى للعلاج في أوروبا.. ولكن الله لم يقدر له الإنجاب..

-     أى أن العيب منه هو..

-     بكل تأكيد.. والأكيد أن زوجته متمسكة به إلى الآن من أجل أمواله الطائلة..

-     يا أخي لا تقل هذا!

-     أمن أجل سواد عيونه إذاً؟

-     أطرقت أفكر في نعمة "المال والبنون".. وبينما أنا كذلك، صاح الكمسري بصوت أجش:

-     المحطة القادمة.. من ينزل؟

نهضت مسرعاً وهبطت والأتوبيس يحرك عجلاته.. هرولت إلى منزلي وكان يقع في زقاق خلف زقاق.. تدخله الشمس خمس دقائق في اليوم لا غير.. وربما لا تدخل.. هتفت بقناعة في نفس ناقمة وقلت:

-       تباً لكم أيها الناقمون.. تباً لكم أيها اللاعنون!

من مجموعة (سريالية.. بعضها من بعض) القصصية

(المنصوره في نوفمبر 1991م)



تعليقات